بقلم: د. عاطف أبو سيف

كان ذلك شهر كانون الأول من العام 1987، وكانت البداية عفوية، لكنها كانت العفوية النابعة من جمرة النار. كان كل شيء فيها عفوياً، وكان بقوة لم تنته، ولأن احداً لم يكن يتوقع الانفجار، فإن لهيبه امتد مثل النار في الهشيم حاصداً كل سنوات المعاناة والقهر، رافعاً في بريقه صورة الفدائي الذي لا يقهر، وماضياً بعزم الريح على تفجير العاصفة. كان ذلك الصباح المشبع برائحة المطر وثقل الغيوم العابرة، الممزوج بعرق الفتية اللاهثين وراء لحظتهم، وشحبار النيران المشتعلة من اطر السيارات المحترقة، والمتاريس التي تعترض امتداد الطرقات، والمقاليع التي تطير في حضن الهواء تبحث عن اندفاعة الحجر، الذي على مرماه كان يرقد الحلم ينتظر ان ينقض على الواقع. كان هذا صباح التاسع مع كانون الاول من العام 1987 حيث بدأت الانتفاضة الأولى.

اتذكر ذلك اليوم جيداً. كان استاذ التاريخ بالكاد يبدأ درسه الذي كان يصر أن يحوله من التاريخ الفرعوني إلى التاريخ الكنعاني. كانت توجهاته قومية عروبية، وسنكتشف بعد ذلك أنه سيكون احد قادة القيادة الموحدة للانتفاضة، حيث سنفتقده وهو يقبع في السجن. خرجنا كاندفاع النهر في جرف الأرض نحو مركز جيش الاحتلال وسط مخيم جباليا حيث كانت شرارة الانتفاضة الأولى. قبلها بليلة وعند دفن العمال الذين دهسهم تركتور إسرائيلي قد تحولت إلى مواجهات مع الجيش، كانت تنذر بأن الفتيل يقترب من الاشتعال. في الصباح استيقظ المخيم كانه يكمل مشوراً بدأه في حلم ثائر جميل. هب الجميع نحو مركز الجيش لتولد من رحم تلك العفوية واحدة من اهم اللحظات في تاريخ الشعب الفلسطيني، اللحظة التي وفي حالات نادرة في التاريخ المعاصر نجح فيها العرب في إدخال كلمة ومفردة إلى قاموس السياسة الدولية. إنها كلمة انتفاضة، التي صارت رديفاً للثورة ولكنها الثورة الشعبية القائمة على هبة المواطنين في وجه الطغاة أي كانا لونهم وشكلهم وطبيعتهم، سواء طغاة الاحتلال وقطعانه أو الطغاة الذين يسلبون إرادة الشعوب، فالاحتلال واحد مهما تعددت اوجهه.

هكذا نجحت تلك الانتفاضة في أن تكون أنموذجاً يدّرس حين يتعلق الامر بثورات الشعوب وهبتهم في وجه من يصادر إرادتهم. كان ذلك الصباح من كانون الاول مختلفاً بشكل كبير، وكان يحمل في طياته ملامح تغير كبير ستهب رياحه على المنطقة بل على الإقليم والعالم، عما قليل حين سيسقط جدار برلين وتنهار الكتلة الاشتراكية، وبعدها بقليل سيغزو العراق الكويت ويدق المسمار في آخر مضامين التضامن العربي حين تتقاتل الجيوش العربية في تحالفات تقودها الولايات المتحدة وتُقصف بغداد من قواعد في الخليج العربي. في ذروة هذه الهزائم والتراجعات والتبدلات في خريطة الكون، كان ثمة خارطة إرادة جديدة تصر أن ترى النور، إنها الإرادة التي حملها أطفال الحجارة في الأزقة والطرقات والوديان والجبال، وهم يرددون عبارات الحرية. إنها ذات الروح التي ستندلع في العواصم العربية بعد اكثر من عقدين من الزمن حين تخرج الشعوب العربية على الطغاة في انتفاضات مماثلة - لنضع جانباً تقييمنا للربيع العربي ومآلاته - فالقصد هو أن ثمة روح جديدة بثها الشعب الفلسطيني في روح الشعوب من طرقات براغ ووارسو إلى القاهرة وتونس.

نتذكر الانتفاضة الآن فيما الحديث والنقاش يدور حول احتمالات انتفاضة ثالثة وربما رابعة وخامسة. وهو حديث يأخذ شرعيته من قلب النقاش حو حالة الجمود والركود التي تصيب الحالة الوطنية الراهنة. إنه نقاش يبحث عن مخرج من المأزق، ويحاول إيجاد تصورات. لنتذكر أن تلك اللحظة الجميلة من شهر كانون الاول من العام 1987 كان أجمل ما فيها عفويتها وتعبيرها عن غير المعبر عنه، ولم تكن نتاج نقاش وجدل فكري وتنظير حزبي ولا تبادل معرفي. كانت لحظة خالصة لذاتها، لذا نجحت في ان تكون اللحظة الذروة.

نعم إنها لحظة الذروة في ثورة فلسطينية مستمرة منذ خرج سكان مدينة يافا ومدينة القدس في هبة العام 1922 احتجاجاً على وصول مجموعات المستوطنين \ لنهب الأرض ومن ثم استمرت بقوة وزخم في ثورة العام 1929 وبعد ذلك في الإضراب الشهير العام 1936 والمقاومة الفلسطينية الباسلة وإن خذلتها الجيوش العربية للمشروع الاحلالي الصهيوني في فلسطين. بعد ذلك الاعمال الفدائية الشجاعة للكتيبة 155 وقوات التحرير الشعبية والتي تتوجت بقوة انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة. ما اقترحه في هذا السياق بان لحظة اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في 1987 كانت تتويجاً لفكرة المد الجماهيري للثورة وكانت تعبيراً آخر عن تجلياتها وزخمها الشعبي الكبيريين. ولم تكن براءة اختراع صدفوي. من هنا فإن السؤال حول مستقبل اي انتفاضة جديدة لابد أن يؤخذ في سياق الحديث عن ذلك النهر العظيم من الانتفاضة الفلسطينية الكبري التي شارفت على المائة عام والتي تجلي فهيا نضال الشعب الفلسطيني وكفاحه وجهاده في سبيل أرضه. أنها كبرى انتفاضات التاريخ حيث يحمل شعب شعلة اللهب لقرابة قرن من الزمن بلا ككل ولا ملل من أجل ان يعاد الاعتبار لكلمة حرية ولمفهوم التحرر.

يبدو هذا النقاش مهماً سيما أنه يأتي ليفكك مقولات أعمق يتضمنها الحديث عن انتفاضات مستقبلية. فهو من جهة يطرح مثلاً أن الانتفاضة الاولى والثانية انتهيتا، وانا لا اعرف أحداً يملك الحق في صناعة تواريخ النهايات، إذا كانت البدايات ذاتها عفوية. إن الأصح ان ثمة انتفاضة مستمرة كان ذروتها الشعبية في كانون الاول من العام 1987 واستمرت بأشكال مختلفة ولم تتوقف يوماً. إذا السؤال هو حول طبيعة الاشتباك القادم مع الاحتلال، لن الانتفاضة ليست إلا حالة اشتباك مع الاحتلال يجب أن نحرص ألا تتوقف ويجب البحث عن أشكال جديدة تتوائم مع كل مرحلة دون ان تنتقص من قوة الاعتماد على الجماهير في توجيه دفة الانتفاضة. إن تعلم دروس الانتفاضة التي تمر ذكراها السابعة والعشرين هذه الايام ربما سيمدنا بقوة أعمق للقبض على زمام المبادرة.