حتى في صحافتنا الفلسطينية وعلى شاشاتنا لا يخلو الامر مما يمكن تسميته بادمان الصغر, حين يحاول البعض سواء كانوا من الفصائل أو افراد عاديين إثارة نوع من الشغب والجدل الرخو والحوارات التائهة في الوهم, لا لشيء سوى لفت الانتباه بعيدا عن بهاء اللحظة الفلسطينية الراهنة, وهي لحظة تاريخية بامتياز صنعها شعبنا الفلسطيني البطل وقياداته واجياله المتلاحقة منذ وقعت النكبة حتى يومنا هذا, انها لحظة نستحقها بامتياز ونستحق ما بعدها لانها نتيجة تراكم ايجابي عبقري لنضالاتنا, لصبرنا العظيم, لايماننا الذي لم ينطفئ لحظة واحدة بأننا اصحاب حق في وطننا وفي دولتنا, أننا جديرون بما نطالب به, بأن نواصل مسيرتنا الحضارية في دولة مستقلة عاصمتها القدس.

واذا كانت الاعترافات تتوالى, فإن هذا معناه أن العالم منتبه للحق الفلسطيني, وأن هذا الحق الفلسطيني ليس شفقة, بل هو يقين ساطع بأن العالم وامن العالم وضمير العالم سيكون افضل مع قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.

وهذا ليس معناه ان المعركة أوشكت على النهاية, بل المعركة في اوجها وسيكون لها تجليات كبرى, ويكفي أن نذكر على سبيل المثال ان قادة الاحتلال الاسرائيلي الذي ان الاوان لرحيله نهائيا, كانوا يعبدون اوهامهم ويقولون انهم سيشطبون القضية الفلسطينية عن جدول اعمال العالم, وها هم اليوم مهددون بالسقوط من ثقوب الذاكرة, وكل واحد منهم يعلن صراحة أنه على استعداد ليخون حليفه من اجل ان يبقى هو حتى لو ذهب حليفه الى الجحيم.

انتبهوا, الاعترافات تتوالى كأنها البشارات, وشعوب الارض تتسابق حتى لا تحرم من شرف هذه البشارات الا الذين في قلوبهم مرض ويحتقرون انفسهم, انظروا اليهم ماذا يفعلون, ما هو جدول اعمالهم, ما هي اولوياتهم؟ انها الخيبة والعجز عن رؤية اللحظة التاريخية والحرمان من فرح البشارة.

وهكذا يغرقون في الجدل الشيطاني : هل انتهى وقت حكومة التوافق, هل نعود بشهوة مجنونة الى حالة الانقسام؟ او ان القول بان عمال النظافة في مستشفيات قطاع غزة مضربون, او ان لجنة تفعيل م. ت. لم تجتمع, او لماذا الرئيس لم يذهب حتى الآن لمحكمة الجنايات وفضل اولا ان يذهب الى مجلس الامن ؟ صراخ صراخ, وأسئلة بلهاء, وجدل بيزنطي, كم ملاكا يقف فوق رأس الدبوس, انهم محرومون من طعم الفرح والبشارات, لا يجيدون شيئا سوى الاساءة لشعبهم وسرقة فرحته, وتجاهل غضبه المقدس الذي سطع في شوارع وحارات وازقة القدس, انهم يحترفون تجارة الكآبة والاستهانة بالذات, ولا يتفكرون إلا قليلا.

الحمد لله ان شعبنا الفلسطيني لا ينتبه لهؤلاء كثيرا, فله ثوابته وله احزانه العميقة وافراحه المبهرة, وله ايام اشتباك وايام غضب, وله ارض يتشبث بتينها وزيتونها, له شتاء وله صيف وأولاد يكبرون وأولاد يستشهدون وأولاد يصمدون في الزنازين, اما الذين لا يريدون سوى عقد جلسة زائفة للمجلس التشريعي, ويريدون حكومة للفصائل بدل حكومة التوافق, ويواصلون الاتهامات للشرعية الفلسطينية التي بدونها يتحولون الى عرايا لا يسترهم شيء, أو يتسللون من وراء الصفوف لعقد صفقات مع العدو فأولئك ساقطون من ذاكرة شعبهم لا ينتمون اليه, محرومون من مجد البكاء معه حين يبكي, ومن فرح البشارات حين يفرح, بعيدون عن متابعة ذلك الجهد الضخم الذي يبذله المخلصون لكي تعود فلسطين بكامل جلالها من الغيا ب الى الحضور ومن مرارة الانكار الى عبقرية الاعتراف ومن ظلال الفرضيات الى ارض الواقع الفعلي, ولا شيء ابهى من اللحظة الفلسطينية.