في ديسمبر 2011 أتيح لي ان أرافق سيادة الرئيس أبومازن بطائرته الرئاسيه الى باريس وذلك لرفع علم فلسطين في ساحة مبنى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) اثر نيل العضوية الكاملة في تلك المنظمة بعد معركة شجاعة شاركت بها الخارجية الفلسطينية واللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم وبعثة فلسطين لدى اليونسكو وشارك بها ايضا المجموعة العربية والأسلاميه وأصدقاء فلسطين في أفريقيا ودول عدم الانحياز ومجموعة أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، وكان لي شرف ترؤس وفد فلسطين باعتباري رئيسا للجنة الوطنية، وشهدت تجربة فريدة تجلت فيها بطولة القيم، وفشلت فيها اسرائيل وجللتها العزلة، وصمد الفقراء في العالم الثالث أمام ضغوط اميركا وتهديدها بوقف المساعدات وحجبها عن برامجهم التعليمية ان هم صوّتوا لصالح فلسطين، وصمدت السيدة بوكوفا مدير عام اليونسكو أمام تهديد أميركا بوقف دفع التزاماتها اذا ما أبقت بند التصويت لعضوية فلسطين على جدول أعمال المؤتمر.كانت معركة انتصرت بها الأخلاقيات العالمية، وانتصرت أفكار جان جاك روسو ومنتسيكيو ودريدرو ومدونة الحرية والأنتصار لقضايا الأنسان التي جاءت بها الثورة الفرنسية حين صوتت فرنسا ومعها عشر دول أوروبية بنعم لعضوية فلسطين. كانت معركة نجحت وما كان لها أن تنجح بهذا القدر لولا الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس محمود عباس في الأمم المتحدة قبل ذلك عشية تقديمه طلب العضوية الكاملة لفلسطين في مجلس الأمن وبلاغة المشهد الدولي الذي صنعه ذلك الخطاب البليغ. وكان الرئيس في الرحلة المشاراليها يلبي دعوة من منظمة اليونسكو ليرفع علم فلسطين الى جانب دول العالم ويلقي كلمة في القاعة الرئيسة للمنظمة. لا أريد ان أتحدث عن السجايا الانسانية التي يتحلى بها الرئيس، وتعامله مع الفريق المرافق له بما يتمتع به من دفء ودماثة وخلق كريم،فذلك من شيم كبير القوم ومن شيم من هو بمثابة أب للشعب الفلسطيني، ولكني أرغب في أن أتحدث عن الاستقبال الرسمي الهائل الذي حظي به الرئيس من قبل الحكومة الفرنسية حين حطت بنا الطائرة في مطار أورلي على الرغم من أن زيارته لم تكن زيارة دولة، وانما زيارة لمنظمة اليونسكو.. وأذكر انه حين كان موكب الرئيس يشق شوارع باريس باتجاه الفندق الذي يقع في منطفة متحف اللوفر بمرافقة الشرطة وقوات أمن كبار الشخصيات حيث أغلقت الشوارع ليمر الموكب دون عوائق... أذكر انني شعرت لحظتها ان كل شوارع العالم تفتح ذراعيها وتشير بتلويحة حب لفلسطين... تذكرت ما كان يردده الرئيس في الماضي وما ردده في خطابه الأخير: ارفعوا رؤوسكم فأنتم فلسطينيون. وظل هذا الأحساس يرافقني حتى اليوم التالي حين رفع الرئيس في ذلك اليوم الماطر علم فلسطين في ساحة اليونسكو وسط تجمع دولي هائل لسفراء العالم في اليونسكو وضيوف من شخصيات أوروبية رفيعة تمثل نوابا ورؤساء بلديات ومثقفين ورؤساء بلديات،ومدير عام اليونسكو ورئيس مجلسها التنفيذي ورئيس مؤتمرها العام. ارتفع علم فلسطين تحت زخات مطر هطل علينا بردا وسلاما. وتذكرت وفلسطين تحظى بهذا الاهتمام بل بهذا الحب، ذلك الشاب قي شبابه المبكر: محمود عباس الخارج من صفوف الفقراء الذي يعمل معلما في النهار وطالبا في جامعة دمشق في المساء..الطالب المفعم بالحيوية والوطنية الذي أسس تنظيما سريا من أجل تحرير فلسطين مع رفاق له من أبناء المخيمات في ذلك الزمن (عام 1955) والذي لم يكن للفلسطيني فيه من مرجعية سوى مؤسسة اللاجئين. قرر الفتى محمود عباس ورفاقه ان يجدوا وسيلة تمكنهم من العمل الاجتماعي والتواصل مع ابناء شعبهم للتثقيف والتعبئة الوطنية فقرروا تأسيس جمعية وذهبوا الى وزارة الداخلية السورية ليقدموا طلبا لترخيصها، فاستقبلهم شرطي في الغرفة المخصصة لتقديم الطلبات وأخذ منهم ورقة طلب الترخيص وقال لهم: تعالوا بعد أسبوع. ويعد أسبوع عاد الفتى محمود عباس ورفاقه الى غرفة الشرطي ليحصلوا على جواب، وعندما دخلوا نظر اليهم الشرطي وقال لهم :هل انتم الذين قدمتم طلبا لتحرير فلسطين، ثم رفع سماعة الهاتف وقال بتهكم: أعطوني الجامعة العربية..ثم واصل تهكمه : يا جامعة عربية من فضلك حلّي نفسك لأن شباباً من لاجئي فلسطين يريدون أن يحرروا فلسطين.. ثم أغلق السماعة وسحب ورقة من بين أوراق أمامه وقال هذا طلبكم ؟ ثم شقه نصفين وألقاه في سلة الزبالة. مزق الشرطي الورقة، ولكنه لم يمزق أحلامهم ولم يدفعهم الى اليأس، بل انهم واصلوا العمل بالوسائل المتاحة وحددوا أهدافهم وفي مقدمتها حقهم في التدرب على السلاح وحقهم في الالتحاق بالكليات العسكرية السورية لاكتساب مهارات عسكرية وليكونوا مستعدين اذا ما حانت المعركة لتحرير فلسطين، وبعد نضال سمحت الحكومة السورية للفلسطينيين بالالتحاق فعلا بالكليات العسكرية فكان الشاب محمود عباس من أوائل الذين التحقوا ولكنه استبعد بعد فحص النظر ! غيرانه واصل عملية التثقيف والتنظيم. مساء يوم رفع العلم الفلسطيني استقبل الرئيس الفرنسي (ساركوزي ) الرئيس عباس وعادت لذاكرتي حكاية الشرطي..هل خطر بباله وهو يمزق الورقة ويلقي بها في سلة الزبالة ان الشاب الذي أمامه سيصبح ذات يوم رئيسا لفلسطين وان أبواب باريس تفتح له على مصاريعها وأن رئيسها يحتفي به..؟ وأن الجامعة العربية بل الأمم المتحدة، بل عواصم العالم تفتح له الأبواب ! مسيرة طويلة سلكها الرئيس أبومازن حين أسس مع جيل العمالقة حركة وطنية وثورة مسلحة نقلت الشعب من مرحلة اللجوء الى مرحلة الثورة ومن شعب لاجئ الى شعب له حقوق. دور كبير لعبه أبو مازن في العمل السياسي وربما يكون هو المؤسس الفعلي لما نسميه الواقعية السياسية التي تتسم بالمرونة التي لا تذهب بعيدا قي التطرف أو المغامرة بل تتمسك بالحقوق الوطنية كما أقرتها الشرعية الدولية (دولة مستقلة / تقرير مصير / حل مشكلة اللاجئين وفق القرار 194).. وهي واقعية سياسية أيدها العالم وصوت لها عندما استجاب لطلب الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة.