يقولون في علم السياسة إن الانتصارات تحمل أصحابها بمسؤوليات ثقيلة، أولها الحفاظ على هذه الانتصارات حتى لا تخطف من بين أيديهم، أو تذبل وتتلاشى دون تفعيلها إلى أقصى حد ممكن أو الصراع على قرارات مختلفة، وغنائم متوهمة، فتصاب هذه الانتصارات بالجراح الدامية.
فلسطينيا, فإن العام 2012 يوشك أن ينتهي وقد حققنا فيه انتصارات مهمة جدا، أولها أننا عبرنا من خلال قيادتنا الشرعية عن درجة عالية من الوعي وصلابة الإرادة ودقة الأداء في معركتنا بعدم العودة إلى المفاوضات بمعاييرها القديمة، ونقلنا القضية الفلسطينية نقلة نوعية إلى الأمم المتحدة، والتصويت في الجمعية العامة، وأفشلنا إلى حد مذهل أن تكون دماؤنا وأشلاء قتلانا مجرد جزء من لعبة الانتخابات الإسرائيلية من خلال كسر إرادة العدوان الإسرائيلي وإظهار القيادة الإسرائيلية الحالية على حقيقتها من عدم الكفاءة والبقاء داخل نصوصها المغلقة، ووجهنا رسالة إلى العالم بأن اللعب على وتر الانقسام أو جرح الانقسام أو جريمة الانقسام قد انتهى من خلال وحدة الشعب التلقائية، ضد العدو، ووحدة الأذرع العسكرية التلقائية ضد العدوان، الأمر الذي يجعل ضياع القرار الفلسطيني أمام خيار وحيد وهو العودة إلى المصالحة الناجزة على ورق الاتفاقات، والتي تحتاج إلى إرادة للتنفيذ الفوري ليس إلا...
بمجمل هذه الحالة، فإن جدراناً كثيرة قد سقطت، وانفتح أمامنا أفق جديد، وأنا أعتقد أنه رغم أن الأعداء الخارجيين مستنفرون إلى الحد الأقصى، وكل طرف منهم يريد أن يرد الصفعة، وكذلك الحال مع الأعداء الداخليين عبيد الانقسام وتجاره والصاعدين على أشلائه ما زال لديهم ما يخربون به المشهد !!! لكن الإنجاز الذي تحقق لا يمكن الرجوع عنه، فقد صدرت شهادة ميلاد الدولة الفلسطينية، ولن يتراجع العالم كله ويمزق شهادة الميلاد الفلسطينية !!! ولن يمحو أحد من الذاكرة السياسية أن الصواريخ الفلسطينية قد انفجرت فعلا بالقرب من تل أبيب وبالقرب من القدس، وأن القبة الحديدية الإسرائيلية التي هي استثمار أميركي إسرائيلي لا تمنح أصحابها الطمأنينة والأمان الكاملين! كما لن يتجاهل أحد أن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة والقدس، وداخل الخط الأخضر، وفي مواقع الشتات القريب والبعيد، قد رسم صورته الحقيقية الراسخة وهي أنه شعب واحد، وأن الذين كانوا يعدون له الخيم ليلتجئ إليها في سيناء كانوا عائمين على موجة من الوهم، وأن قطاع غزة باق بقوة في مساره ومصيره الفلسطيني، وليس في أي صيغة أخرى.
لن يستطيع أحد أن يقفز عن هذه الحقائق التي هي انتصارات كرسها الشعب الفلسطيني بجهده ووعيه وعظيم تضحياته وعمق انتمائه الوطني، ولكن الأعداء سيحاولون ما أمكنهم إعادة تخفيض السقوف، أو إعادة إدخال الحصان الجامح الذي انطلق في الأفق المفتوح إلى الحظيرة، وهذا شيء معروف في العمل السياسي، وفي صراع القوى وصراع الإرادات.
هناك في إسرائيل أشخاص وقادة وقوى يوشكون أن يفقدوا مستقبلهم السياسي، ولا نتوقع منهم أن يتجرعوا الهزيمة بأدب !!! وهناك الولايات المتحدة التي تحتكر رعاية إدارة العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، وهي لن تقبل بسهولة أن تدار هذه العلاقة في إطارات أخرى مثل الأمم المتحدة، وأعتقد أن الولايات المتحدة التي بذلت جهدا خارقا حتى لا يذهب الرئيس أبو مازن إلى التصويت، ثم بذلت جهدا خارقا حتى لا يكون التصويت بهذه الصورة في الجمعية العامة، تصوروا أميركا ليس معها سوى إسرائيل ومكرونيزيا !!!
وبالتالي، فإن موقعها في العالم سيدفعها إلى الاعتراف بما حدث، والتعامل معه، في محاولة حتى لا تفلت الأطراف بعيدا، وحتى لا يرتفع السقف كثيرا، ويجب أن نكون مستعدين لذلك...
فما هي الامكانات المتاحة لنا؟
والجواب، هو الذهاب إلى المصالحة، والوحدة الوطنية، واعادة صياغة علاقاتنا الوطنية، أي تجليس هذه الانتصارات على قواعد صلبة على أرض الواقع، لأن الانتصارات إذا لم تفعل فإنها تصبح عبئا على أصحابها، وهنا بالتحديد، فإن وعي الكل الوطني، عمق الوعي بالمسؤولية، وعمق الوعي بصوابية الدور الذي يجب أن تلعبه مفردات الساحة الفلسطينية هو أمر في غاية الأهمية.
في الصراع السياسي، وحتى عندما تسقط الجدران، وينفتح الأفق الواسع، يجب أن نكون أكثر مسؤولية، وأكثر حذرا، وأكثر دقة في الحسابات، لكي نتقدم في الأفق المفتوح إلى الهدف الحقيقي، الهدف المنشود، الحرية، الاستقلال، بناء الدولة الفلسطينية، فهذه هي القيامة الفلسطينية، أن ننتظر، ولا يأخذ أحد انتصارك من بين يديك، بل تزرع انتصارك جزءا من الأمر الــــــــــــــواقع.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها