شهدت مدن قطاع غزة، قبل يومين، مسيرات حاشدة، للإعلان عن التضامن مع القدس، والإعراب عن كون محاولات المحتلين تهويدها؛ لن تمر مرور الكرام، مهما تجبرت قوة الاحتلال وساندها الإمبرياليون. أحسست بالفخر عندما وصف لي صديق، إحدى هذه المسيرات في مسقط رأسي خان يونس. فحسب تقديراته لم تكن التظاهرة تقل عن ثمانين ألف مواطن. وبلا مؤاخذة، يصح التساؤل: لماذا تُجرى مثل هذه الفعاليات في غزة وحدها؟ فإن كانت الفصائل، وناسها، يخشون من اختلاط الأمور، ومن جر الحال الفلسطينية الى العنف والعنف الإغراقي المضاد؛ فالأجدر أن تكون غزة، متلقية النيران تلو الأخرى، هي تخشى وتستنكف، لكي تتحسس في حُلكة أيامها، الطريق الى مفاتيج الإضاءة والى صنبور المياه العذبة والى المشفى المقتدر، والى طبائع الحركة والسفر. 
لكي لا يفهم واحد من النمامين، أننا نرمي شعبنا في الضفة، بمظنة الهجوع؛ فإن محسوبكم مضطر للقول إن المسألة تتعلق بهجوع فصائل وشرائح سياسية، عالية الكُلفة، لا بهجوع مجتمع وشعب عظيم، من شمالي جنين الى جنوبي الخليل، لم يبخل على القدس وعلى فلسطين بدم أبنائه، ولا بمقدرات حياته. 
عند هذه النقطة، لا أرغب في الزيادة، لكنني سأتحاشى أن تكون مقالتي اليوم قصيرة. لذا سأرسم لقارئي إحدى اللقطات الطريفة من لقاءت الشهيد الرمز «أبو عمار». جاء «الختيار» الى الجزائر ومعه المرحوم فيصل الحسيني الذي ألح في طلب مساعدة مالية من منظمة التحرير للقدس. التقاه في المطار رضا مالك، الذي كان وزيراً للخارجية. وكانت زيارة الرئيس ياسر عرفات، يومها، قَدَم خير على مالك، إذ أبلغته الرئاسة وهو في انتظار أبي عمار في قاعة المطار، أنه بات رئيساً للوزراء، مكلفاً بتشكيل حكومة جديدة. التقى «الختيار» الرئيس آنذاك، وهو المجاهد المرحوم علي كافي، وتمنى عليه توفير المبلغ المطلوب للقدس، على الرغم من علمنا أن الجزائر كانت تمر بضائقة مالية وأن مديونيتها آنذاك كانت 26 مليار دولار، تتأسس عليها فوائد سنوية، تزيد عن حجم المبلغ الذي في مقدور الجزائر أن توفره بعد تلبيتها للحد الأدنى من نفقات الدولة والمجتمع. ولم يتردد علي كافي في الاستجابة فوراً لطلب فلسطين والقدس. انتهت مهمة زعيمنا خلال دقيقتين. فالرجلان صديقان حميمان، بل رفيقا نضال فلسطيني منذ منتصف الستينيات. كان علي كافي سفيراً في بيروت، وكان المرحوم الشهيد فيصل بن عبد العزيز، العاهل السعودي، يرسل مساعدته لــحركة «فتح» من خلال علي كافي والى حسابه المصرفي، ويسلمها كافي بدوره الى ياسر عرفات أو خليل الوزير. فالعلاقات الدولية في تلك الأيام، لم تكن تسمح للسعودية بتقديم دعم مادي لحركة مناضلة. 
انتقل «الختيار» للاستراحة ولتناول الغداء في دار الضيافة الحكومية «جنان الميثاق» في حي «الأبيار». رافقه رضا مالك الذي أصبح رئيساً للحكومة. على طاولة الغداء، رغب الزعيم الفلسطيني في الثناء على الموقف الجزائري، فقال لمالك: أنتم الثوار الذين يصدق فيكم قول رب العالمين في الآية القرآنية «يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصة». لكن مالك، وهو مناضل عاش فترة شبابه اليافع في فرنسا، ويُعد من الفرانكفونيين؛ لم يفهم «الخَصاصة» فسأل «الختيار» عما يقصد و «شنو يعني». هنا وقع «أبو عمار» في زنقة شرح لغوي وقرآني، فلم يجد أسهل من تكرار الآية ببطء مع استكمال تشكيلها. عاد مالك وسأل، فعاد «أبو عمار» وقرأ، كأنما توقفت الدردشة وبدأت التلاوة. لحظتئذٍ أحس محسوبكم بالمأزق فتدخل باللهجة الجزائرية ما أمكن: «يعني يا سي رضا، واحد يعطيك شي، وهو يستحقه». وكلمة يستحق، باللهجة الجزائرية، معناها يحتاج. 
معلوم ان الآية، من سورة «الحشر» تقول: «والذين تبوءُوا الدار والإيمان من قبلهم، يُحبون من هاجر اليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصةٌ». و «الخصاصة» معناها الحاجة وسوء الحال!
في حكاية الحشر في غزة، يرى مفتّح العينين، أن الناس، ومن أجل القدس، تؤثر على نفسها ولو كان بها خَصاصة!