قبل نهاية الحرب العالمية الأولى التي انهارت خلالها الامبراطورية العثمانية وتفتتت, كانت بريطانيا قد وعدت حلفاءها العرب بمساعدتهم على الاستقلال, وكانت الرسائل المشهورة باسم رسائل مكماهون و الشريف حسين الأول شهادة دامغة على وعود بريطانيا للعرب, ولكن تقسيم أملاك الامبراطورية المشهور باسم إتفاق سايكس بيكو كشف أن وعود بريطانيا شيء وسلوكها شيء آخر فقد كان لبريطانيا شريك آخر هو فرنسا, وكان تقسيم سايكس بيكو بين الدولتين يعتني بمسائل أخرى معقدة, حيث كانت بريطانيا تدرك أن وجودها لن يستمر طويلا برغم انتصارها الكبير, وكانت قد استولت على قناة السويس منذ احتلال مصر في العام 1882, وظهر في عالم السياسة الدولية تعبير شرق السويس, فعملت بريطانيا كل ما في وسعها كدولة استعمارية آفلة أن تضمن مصالحها باقتطاع جزء من الوطن العربي – فلسطين- تعطيه للحركة الصهيونية التي كانت متحالفة معها, وتنشئ لليهود دولة شرق السويس المعروفة الآن باسم إسرائيل, وهذا هو الوعد المشؤوم الذي تمر ذكراه السوداء هذه الأيام, الذكرى السابعة والتسعين, عندما صاغ اللورد «بلفور» وزير الخارجية البريطاني وعدا بإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق, وهذا هو وعد بلفور الذي يجسد على مستوى العدالة, وعربدة القوة, وتواطؤ السياسة أكبر خطيئة ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني, وقد تولت بريطانيا عملية الانتداب على فلسطين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى, ولم تفعل في ذلك الجزء العريق من الأرض الذي كانت أول أرض أشرق عليها تاريخ الإنسان وهي فلسطين, سوى التنكيل بالشعب الفلسطيني والاستقواء عليه, وتدمير كينونته وميراثه الحضاري لإعطاء فلسطين للحركة الصهيونية ليصبح اسمها إسرائيل, وتعريض الشعب الفلسطيني بأكمله للارهاب والاستعمار الصهيوني المباشر, حتى أن الحركة الصهيونية حليفة بريطانيا لم تترك شيئا إلا واستخدمته لتشريد الشعب الأصلي صاحب الأرض والوطن, ونكران ميراثه بل نكران وجوده بالكامل فكانت المجازر, وكانت المؤامرات وكان التهجير القسري وعمليات الاستيطان المكثفة, حتى اليهود أنفسهم الذين لم يهاجروا إلى فلسطين لأسباب دينية أو أيديولوجية أو اقتصادية أو ثقافية, حاربتهم الحركة الصهيونية بمساعدة بريطانيا, وأرهبتهم حتى يذهبوا إلى فلسطين قسرا, وقد تكشفت الوثائق المخبأة في السنوات الأخيرة, على مستوى الأساطير والخرافات المكونة لدولة إسرائيل, وعلى مستوى المجازر والجرائم, وعلى مستوى المؤامرات العلنية والخفية!!! لكن التاريخ له كلمته في نهاية المطاف, فكل ما تآمرت بريطانيا من أجله ضاع في سياق التطورات التاريخية, فقد انسحبت بريطانيا من كل مستعمراتها ومن كل المواقع الاستراتيجية, وتغير شكل العالم كله تحت ظل أنظمة دولية متعاقبة, لكن الخطيئة الأولى ما زالت باقية, وهي حرمان الشعب الفلسطيني من وطنه ودولته المستقلة الخاصة به, فما زالت السياسة البريطانية تحوم حول الموضوع ولا تحدث اختراقا حقيقيا, وما زالت الخطيئة قائمة ولم تنجح بريطانيا حتى الآن في الاعتراف بالخطيئة, والتراجع عنها, مع أن الباب أصبح مفتوحا ضمن اهتمام دولي غير مسبوق, وهو الاعتراف بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية, كحد أدنى للحق الفلسطيني, فهل تفعلها بريطانيا أم أن ماضيها الاستعماري يقف حائلاً فتظل تدافع عن الخطيئة السوداء.
قبل أسبوعين تقريبا, وافق مجلس العموم البريطاني بأغلبية ساحقة على الاعتراف بدولة فلسطين, صحيح أن التصويت كان رمزيا, وأنه حسب القوانين البريطانية, فإنه غير ملزم للحكومة لكنه يشير بوضوح ساطع إلى أن الوقت قد حان للتنصل من وزر الخطيئة, خطيئة وعد بلفور, والانتصار للعدالة والحق, ودعم السلام الشامل الذي يحتاج إليه الجميع في هذه المنطقة والعالم.
في الذكرى السابعة والتسعين لوعد بلفور الأسود, الظالم, العدواني, فإننا ندعو الشعب البريطاني لممارسة الضغط على الحكومة البريطانية لتكون في مقدمة الصفوف في نصرة الحق الفلسطيني والاستقلال الفلسطيني والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية, ذلك أن المسؤولية التاريخية تلزم بريطانيا أن تكون مع قيام فلسطين من جديد.