كلما حَكَ الكوز في الجرّة الفلسطينية المالية، تلتفت عين الحكومة الى رواتب موظفي غزة، وفي كل مرة هناك تعليل. في سنوات الحصار المشدد، كان فيّاض، الذي دأب على الصرف عن سعة في سياقه وفي شأنه وفي شأن مستشاريه؛ يُبرر نَحت الرواتب بالمقاصة وبعائدات الضريبة المتحصلة من البضائع التي تدخل الى غزة عن طريق المعابر الإسرائيلية، وكان يتعمد خسف النسبة الى صفر وأحياناً الى 2% من هذه العائدات، علماً بأنها لم تهبط في أسوأ الأوقات الى ما دون 30% إذ كانت الشاحنات تدخل بمعدلات وإن منخفضة. بالنتيجة نشأت في أوساط عناصر الحسبة المالية المجردة، مقوله «إننا نصرف على غزة» بل إن البعض الذي ظن نفسه نبيهاً يعلم ما يغفل عنه الآخرون، كان يزيد ويقول «إننا نموّل الانقلاب»!

كيف نموّل الانقلاب وكيف نصرف على غزة؟ ليس هناك من يستطيع الإجابة بمفردات الاقتصاد الموصولة بمفاهيم ومفردات المشروع الوطني، ولا نريد أن نشرح أكثر. المنطقي أن نرى في مثل هذه التخرصات ثرثرات غرائزية لا تستحق الرد، فكيف نموّل الانقلاب عندما نصرف رواتب موظفينا الذين طلبنا منهم الاستنكاف عن العمل في ظل حكومة «حماس» فاطاعونا واستنكفوا؟ وكيف نصرف على غزة، فيما الشاحنات تدخل والمقاصة تحسب والإعانات المالية لفلسطين كلها تصل؟ ومن هم الذين يرسلون هذه الأقوال الجزافية، غير قناصي الأرباح والوظائف والترقيات الذين أوجعوا حياة الفقراء في الضفة نفسها؟!

لسوء حظ فلسطين، أن مشروع استخراج الغاز الطبيعي قبالة شاطئ غزة تعثر. لو لم يتعثر، ولم تنقلب الأمور، وأصبحت لدينا موارد تغطي مشروعات التنمية لفلسطين كلها، لكانت غزة في طليعة من يعلمّون ضعاف النفوس فيها وفي غيرها، معنى الوطن، إن تجرأوا على القول إن غزة تصرف على فلسطين. ذلك لأن شرق الجزيرة العربية لا يمنن على غربها، بأنه ينتج الطاقة ويصرف عليه، مثلما لم تكن دير الزور والرقة والحسكة، تمنن السوريين في الوسط والجنوب بأنها تصرف عليهم، بل إن مناطق الثروة في سوريا لم تفكر في هكذا منطق، عندما تعرضت للتهميش وللاستثناءات على صعيد التنمية. ومن سخريات القدر، أن ينطق عندنا من لا ينتجون ومن لا يقومون على ثروة طبيعية، بأحاديث التمَنُن!

الأنكى أن بعض جماعتنا، وأيضاً كلما حَكَ الكوز في الجرّة؛ يقولون ما معناه إن «حماس» تراكم عناصر مشروع قيام دولة أو «إمارة» في غزة. هنا يصح التساؤل: إن كان هذا صحيحاً، هل يصبح الواجب هو إمداد «حماس» بعناصر وشواهد ووسائل إيضاحية تعزز منطق التأطير الجغرافي المختلف، وروح التفرقة ونفض اليد، أم نفعل العكس ونؤكد على المسؤولية الوطنية الشاملة في وطن لن يقبل القسمة؟

إن ما جرى مع موظفي غزة، ومع سكان غزة نفسها الذين يتزايد بينهم سنوياً عدد خريجي الجامعات والمؤهلين للعمل، هو أكثر وأفدح من مجرد نحت رواتب الموظفين بغير وجه حق بينما أكلاف الحياة تتزايد. فقد أُوقفت الترقيات للضباط والجنود وللموظفين المدنيين، وأوقف التعيين للخريجين وأُوقفت المسابقات، وأوقفت معاملات التنقل لاستلام عمل في الضفة، وظلت العين على الرواتب مع المباهاة بأن الأساسي منها لا يزال يُصرف. إن هذا كله، لن يساعد على إحباط المشروع المزعوم عن دولة في غزة. ما يساعد فعلاً هو ثبات الوطنيين في غزة على انتمائهم وعلى قناعاتهم بفلسطين وبمشروعها الاستقلالي.

لا نرغب في التوسع لكي نشرح كيف دفعت غزة كُلفة الدم، دفاعاً عن مشروع الدولة، وكيف اجتمع أهلها يوم 4/1/2013 لكي يؤكدوا على الولاء لمشروع حركة التحرر الوطني. لا نزاود على أحد، ونحن على يقين بأن الغالبية العظمى من النُخب والأهل في الضفة يعرفون الصواب ويعملون به. بل وللإنصاف لم تقصر الحكومة نفسها في شيء تستطيع عمله، أثناء الحرب. أما الرئيس «أبو مازن» فقد سمع أثناء حديثه مع الإعلاميين مساء الثلاثاء تعليقاً فيه خلط ارتجالي بين «حماس» وغزة؛ فقال بعبارات مشددة، إننا نقوم بواجبنا وينبغي أن نظل نؤدي هذا الواجب، لأن الأهل في غزة هم أهلنا وإخوتنا ولن نتخلى عنهم!