بقـلم/ محمد سرور
خاص - مجلة القدس
فيلم براءة الإسلام، في أهدافه وتوقيته مسيء وخطير هو بالطبع من إنتاج مراكز فكر ودراسات ومصانع للرأي العام. وأيا كان الممثل والكاتب والمصوِّر فإن وراءه المؤسسات الصهيونية، إذ لا يمكن لأية دوائر أو مؤسسات أخرى المغامرة بإنتاج هكذا نوع من السموم.
المبادرة الإسرائيلية إلى انتقاد الفيلم لم ولن تقنع، ولا تغسل يد الجاني من دم جريمته. كذلك فإن هذا النوع من الإنتاج الاستفزازي لم يكن الأول ولن يكون الأخير، وهو جزء من مسار تاريخي يعبِّر عن أفكار وثقافات مشوشة ومشوهة ناتجة عن تباعد ثقافي- حضاري يؤدي إلى مواقف مسبقة لا حقائق ولا براهين تتضمنها. وهنا يعترضنا السؤال الثاني: إذا كان المساس بالإسلام ونبيه- ص- مشروعاً في نظر منتجي الفيلم، الذي يسعى إلى دحض فكرة القداسة عن الإسلام، هل يصيب ذلك الديانات الأخرى، أم يدعم حقيقة قداستها؟
للجواب على سؤالنا نجيب بالتالي: امتلاك ورقة القوة، ومعها كم هائل من المصالح الإستراتيجية يعفي الصهيونية- بصفتها المسؤول الرئيس عن إنتاج الفيلم- من الخوف على اليهودية أو المسيحية، باعتبار أن القوة تتبادل موقعها مع الحجة وبالتالي يكون لهذا المنتج- الفيلم- دور آخر يؤديه خدمة لمصالح وسياسيات يراد تأكيدها كجزء أصيل من سياسة صناعة الوعي.
بعض مفكري الغرب بشروا بأن القرن الحالي عربي بامتياز، نظرا لحراك عجلة الشعوب العربية باتجاه الحرية والديمقراطية. وبالطبع يسوء الصهيونية أن يتخلى العربي- والمسلم استلحاقاً عن عصبيته وشعوره المستفز جراء الشعور بالدونية والمطاردة الدائمة. يسوؤها العربي السوي والصافي الذهن القادر على صناعة مستقبله وتقرير مصيره وفق منظومة وعيه ومصالحه. يسوء الصهيونية أن يصبح العربي والمسلم رقماً محسوباً وقوياً في ذاكرة الأمم ومواقع تأثيرها، وبذات القدر يسوؤها أن يصبح مثالاً في بلورة شخصيته وبناء مؤسسات برلمانية منتظمة وديمقراطية متطورة وفق قواعد الاحترام للإنسان والاعتراف بالآخر وبناء العلاقة مع الشعوب من خلال الإقرار بالاختلاف والخصوصية.
لماذا؟
لأن إسرائيل كنموذج تسعى لاستمرار احتكارها ثقة العالم بمؤسسة الحكم فيها. وبسبب نزوعها الحالي إلى التعصب والتطرف وطغيان العنصرية، تصبح أكثر انكشافاً أما العالم الذي يرى أكثريته زيف ما تدعيه من فرادة وتميز.
ما سبق ليس تجنياً على الصهيونية وإسرائيل استطراداً، بل هو وضع لقطار الكلام على سكته الصحيحة. وهنا نعود لذات السؤال: لماذا؟ وبهذا التوقيت بالذات؟ لأن العابثين بوعينا وذاكرتنا- أعني الصهيونية وما وراءها من مؤسسات ومراكز قوى- معنيون بتشتيت وعينا وإعادتنا إلى حالاتنا الأولى إن لم يكن أبعد من ذلك.
معنيون بتعويم العناصر الغوغائية والمتطرفة في مجتمعاتنا. معنيون بخلق النماذج والعقول التي تبرر للاحتلال والصهيونية كل أفعالهم وجرائمهم. معنيون بحجز وعينا أو فكه وتركيبه وفق آليات ومسارات منكفئة- مشككة وعاجزة. هؤلاء معنيون بصياغة بديل للربيع العربي الذي كرَّس نفسه في أجندة التاريخ والجغرافيا العربيين والعالميين. الصهيونية ومن معها يعيدون تعريف العرب والمسلمين في أجندة مرشحي الرئاسة الأميركية والناخب على السواء، من خلال تصويب مسارات برامجهم بما يتلاءم وأولوية مصالح إسرائيل في المنطقة. أي أنهم يعيدون الولايات المتحدة الأميركية ومعها الغرب ايضاً إلى مربع صراع الحضارات الذي ينطلق من نفي الآخر واستعدائه ووضعه على قائمة الأهداف المشروعة.
للأسف، لدينا الكثيرون ممن ينتسبون إلى أفكار وحركات وميول غرائزية مشبعة بالهيجان والتعصب، حيث يلتقون في منتصف الطريق مع منتجي ومروجي "براءة الإسلام"، فكانت ردود أفعالهم متطابقة مع ما رسم وخطط له الصهاينة قبل وخلال إنتاج الفيلم. فقتل السفير الأميركي ومعه ثلاثة من الحراس في بنغازي وإحراق بعض المصالح لحملها لوحات ولافتات تدل على أنها أميركية، وحتى التظاهرات الصاخبة غير المنضبطة والحضارية، قلبت مسار ردود الأفعال وبرأت المجرم من شنيع جريمته، فذهبت بيانات الشجب والتنديد باتجاه الجرائم التي نتجت عن فعل الجريمة الأولى، فيما ردود الأفعال العالمية حول الفيلم ومساوئه بدت أقل من خجولة.
ألم يطغَ الحدث على ما عداه من أحداث هامة ومصيرية في المنطقة والعالم، وبالتالي ألم يعد رفع سقف العداء المتبادل بين الغرب من جهة والعرب والمسلمين من جهة ثانية؟
ألم يستعد مستغلو الفيلم المبادرة لنظرية المؤامرة على العرب والمسلمين لتبرير عداوتهم الشاملة والقائمة على رفض كل مشتقات الفكر والثقافة التي تعتبر من إنتاجهم وتنتسب إلى ارثهم التاريخي؟
إن المتنورين من مفكرينا وعلمائنا، ممن يؤكدون على الخصوصية الثقافية والروحية لمجتمعاتنا، يرون مع الآخر قواسم مشتركة كثيرة وعميقة مداها، إنساني- أخلاقي. وجميلها أنها تعترف بنسبية المشترك المرتبط بالخاص والعالم، وهي أصلاً لا تتوقع ولا تنشد التطابق، انسجاماً مع الواقع الديني والثقافي.
وإذا كان ثمة عناصر تكامل وتواصل بين الأديان، مجردة من الإرث السياسي المثقل بالعداء والنبذ، فإن بمقدورها أن تغلف السياسي بطاقة خلاقة تقارب ولا تباعد، وليكن لنا في رسالة البابا الأخيرة التي أطلقها خلال زيارته إلى لبنان حجة وطريقاً.
ومع ذلك نسأل: هل بالإمكان الفصل بين الدين والسياسة في علاقتنا مع الآخر؟
لدينا مفارقتان تاريخيتان تصعبان علينا الإجابة عنها، وهما متصلتان- مرتبطتان وتتقاطعان في بيت المقدس: الحملات الصليبية وقيام إسرائيل. ومن خلال أهمية هذه المسألة في ذاكرة المتعصبين الغربيين- وما أكثرهم- بات الفصل مستحيلاً، لأن خططاً ومشاريع وأحداثاً على مستوى التاريخ وجهد قرون من الصراع ومحاولات السيطرة تتجمع في الذاكرة الناطقة بلسان حال واقع العلاقات الملتبس.
وهنا تحديداً تكمن مسألة ارتباط الصهيونية بالفيلم- الجريمة، كونه يعيد وصل الذاكرة التي تكاسلت عن أداء فريضة تأجيج المشاعر والغرائز في الغرب، ولو بنسبة قليلة. فالفيلم يستحضر معه التاريخ، بكل أبعاده وأحداثه وتجلياته البعيدة والمستمرة. هو يدل على الفتح الإسلامي كله. يدل على حطين وطرد الصليبيين من القدس وفلسطين. يدل على أهمية بقاء القدس وفلسطين موحدة وتحت الاحتلال الصهيوني. يدل على خطر النهوض العربي والإسلامي- كقطب صراع، وليس كمنافس حضاري- إنساني- يدل على عربية الرسالة الإسلامية ونبيها محمد-ص-؟
ليس النبي- ص- من يحتاج إلى غيارى ومدافعين عنه، إذ يكفي أن أكثر من مليار إنسان ينتمون إلى دينه وليس كاتب أو منتج الفيلم مبشراً ولا موحى له لكي يدرك حقيقة لم يدركها سواه، لكن الذي يحتاج إلى جهودنا وإمكاناتنا المعرفية والمهنية هو كيف نعري الصهيونية من زيفها ونكشفها كحركة تلاعب على الذاكرة الإنسانية، كحركة تحريف وتأليب للقيم الإنسانية وأخلاق الأمم. يجب علينا فضح وجودها في فلسطين، كحركة احتلال واغتصاب وإجرام، على حساب أهل الأرض والديار والتاريخ. كيف يكون مختلفو الأعراف والأنساب واللغات والثقافات والجغرافيا والتاريخ أمة؟ كيف يكون هؤلاء قومية؟
يجب أن نقول: المساس بحقيقة الحركة- رغم أننا لسنا منتجيها ولا نحن مجبرون على التشكيك بمصداقيتها- يرقى إلى جريمة كونها نالت حظها من القداسة في الثقافة العالمية. انتقاد إسرائيل بالمعنى السياسي وبمعنى استمرارها كدولة احتلال وتمييز عنصري واضح وفاضح، يسقط على المنتقد- بكسر القاف- تهمة معاداة السامية، وهي جريمة في العرف الغربي، فيما كل ما ينتج من جرائم ومن اعتداءات سافرة وموثقة بحق الحجر والشجر والإنسان ورموزه ومعتقداته- من قبل الصهاينة- لا يستحق أدنى التفاتة أو اهتمام.
هناك من يتعمد النيل من قوة ومكانة الاعتدال، وبالتالي قطع الطريق على كل إمكانية للتواصل والتعايش الأممي، لان استحضار العصبيات وتقديم أسباب الصراع على ما عداها يفترض اصطفافات وتحالفات ومرجعيات للصهيونية باع طويل في إنشائها وتحديدها ووضع أولوياتها وبنوك أهدافها.
ففي المنطقة الآن مسألتان متلازمتان، هما التغيير الايجابي في العديد من البلدان العربية والمسألة الفلسطينية بكل أبعادها وأثقالها. ومن أهم أولويات الحركة الصهيونية قتل الروح العربية المتجددة والشخصية العربية المتحررة في مهدها. وخلال ذلك تمهيد الطريق لشتى أنواع الشذوذ والتطرف من أجل تأييد الانقسامات والصراعات الداخلية، وبالتالي منع الشعوب العربية من الانتساب إلى عالم التطور والتقدم.
لا يمكن أن تبنى الشخصية العربية والإسلامية الحديثة إلا على أسس التنور والاعتدال كمدخل لصياغة فكر مثقف وتواصلي يجيد بناء الأسس التي يفترض أن يبنى عليها الغد الجميل. بالطبع فإن الغد لن يكون جميلاً إلاّ بحل عادل للقضية الفلسطينية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها