كتب الأستاذ في العلوم السياسية الدكتور حسن نافعة مقالاً مهمًا تحت عنوان "نعم، تلقت المقاومة ضربة قاسية، لكنها لم تهزم". وبرغم أن الكاتب اعترف ضمنيًا بتراجع ما سماه "محور المقاومة" فلسطينيًا وعربيًا وإيرانيًا، إلا أنه اعتبر أن هذا المحور ما زال مؤثرًا بدليل استمرار الاشتباكات المسلحة في غزة ونجاح حركة حماس حتى الآن في احتجاز الأسرى الإسرائيليين. وبغض النظر عن درجة توافقنا مع مقدمات الكاتب، إلا أن الذي نعترض عليه بشدة هو اتهامه المبطن للمتخوفين من صيرورة الأحداث بالخيانة –ومنهم أنا بالطبع- وخاصة عندما جادلته بمقولة تدمير معظم غزة فكيف بك تتحدث عن عدم هزيمة ما تسميه محور المقاومة.

* في الواقع، يوجد عندي عدد من التحفظات على مقال نافعة، أوجزها بالآتي:

- أولاً: لا يجوز استنساخ فكرة التكفير والتخوين لدى الحركات السياسية الإسلاموية في فكر كتاب الرأي وعلماء السياسة والاجتماع، فالتخوين والتكفير فكرة دينية بالأساس وليست فكرة عقلانية وعلمية، وبالضرورة، فإن الاختلاف في الرأي -حتى ولو كان هذا الاختلاف يعبر عن القلق من مآلات السابع من أكتوبر- لا يعني في صيرورة النتيجة فعلاً تخوينيًا أو تكفيريًا.

- ثانيًا: إن تواصل الاشتباكات المسلحة الفردية في قطاع غزة لا يعني بالضرورة انتصار شباب هذه الاشتباكات، وإنما يشير بشكل واضح إلى أن الشعب الفلسطيني يرفض الاحتلال سواء كان في قطاع غزة أو في الضفة الغربية. وهذه الاشتباكات المسلحة ليست حكرًا على حماس أو أي فصيل آخر، وإنما هي تشتمل على عناصر هوياتية ونضالية تشكل في مجموعها كلاً جمعيًا لرفض الشعب الفلسطيني لواقع الاحتلال. وهي لا تشمل بالضرورة على المقاومة المسلحة، وإنما تتعداها وتتجاوزها لتشمل كافة أشكال المقاومة مثل المقاومة الشعبية والسلمية والصمود والمقاومة القانونية والدبلوماسية.

- ثالثًا: إن انتشار حالة القلق والتحسب الذي ساد في الآونة الأخيرة في الشارع الفلسطيني العام والنخبوي ليس نتاجًا لترف فكري، وإنما هي انعكاس للمآلات التي أصابت شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية بعد السابع من أكتوبر، وهو الأمر الذي جعلنا نصفها بالنكبة الثانية. وهذا الوصف لا يعني أننا تخلينا عن مقاومة الاحتلال، وإنما يعكس مراجعة نقدية واعية للأفعال السياسية وردود فعلها، وهو الأمر الذي من شأنه مساعدة الشعب الفلسطيني في الوصول إلى صيغ أكثر توافقية وعقلانية لأدوات المقاومة وفقًا لقاعدة تخفيض التكلفة وتوسيع المنفعة.

- رابعًا: إن المراجعة النقدية لواقع القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر لا تعني استسلامنا للمحتل والواقع التصفوي للقضية الفلسطينية الذي يعمل على فرضه، وإنما تعكس تصميمنا على النضال ضد هذا المشروع التصفوي. فاليأس والإحباط في هذه الحالة لا يعبر عن قبولنا بمعادلات المحتل الجديدة، وإنما يعكس رفضنا وتقييمنا الواقعي لما حدث في السابع من أكتوبر. والدليل على قولنا هذا هو أن الشعب الفلسطيني بعد النكبة الأولى عام 1948 وحالة اليأس التي أصابته بعد ضياع 75% من مساحة وطنه، فإنه قد أطلق ثورة شاملة ضد العدو من خلال فدائيي فصائل العمل الوطني التي شكلت لاحقًا منظمة التحرير.

- خامسًا: إن تقييمنا الواقعي لما حدث في السابع من أكتوبر لا ينجر أبدا لعدم تحميل الاحتلال مسؤولية الإبادة الجماعية التي قام ويقوم بها في قطاع غزة، فالاحتلال الصهيوني يبقى احتلالاً فاشيًا عدوانيًا ضد الشعب الفلسطيني ولن يتغير حاله في الأمد القريب والمتوسط، ولكن هذا التقييم السلبي هو لجزئية تحميل حركة حماس مسؤولية إعطاء المبرر والمسوغ للاحتلال الإسرائيلي للقيام بإعادة احتلال قطاع غزة وتنفيذ الإبادة الجماعية تجاه الفلسطينيين. 

وليس صحيحًا البتة أن إسرائيل لا تحتاج إلى مبرر للتنكيل بالشعب الفلسطيني، لأن هذه المقولة تم استغلالها من قبل العديد من النخب السياسية في حروب العرب كافة أعوام 1948، 1967، وأيضًا حروب إسرائيل في قطاع غزة الخمس منذ انقلاب حماس عام 2007. وبالطبع، فإن سبب انتشار هذه المقولة بعد كل هزيمة هو التهرب من تحمل المسؤولية عن خسارة هذه الحروب.

- سادسًا: علينا أن نكون صرحاء وواقعيين في تقييمنا وتحليلنا السياسي حتى لا نكرر أخطاءنا ولا نستنسخ نماذج فاشلة في علاقاتنا الوطنية وفي أنماط نضالنا. فعلى سبيل المثال، لو كنا صرحاء في وصف الواقع الذي نمر به بعد السابع من أكتوبر لما خرج علينا البعض الآن في تبرير أحداث جنين محاولين استنساخ نموذج غزة في الضفة الغربية بحجة انتصاره.

وفي النتيجة، أود أن أقول إنه إذا انتشر التخوف في عقولنا يا دكتور نافعة، فإن ذلك لا يعني أبدًا أننا لن نستمر في مقاومتنا للاحتلال حتى نيل الدولة المستقلة، ولكن بالمقابل، فإن على الساسة الذين قرروا البدء في معركة السابع من أكتوبر ان يتحملوا المسؤولية أمام شعبهم عن حجم الخسارة الفادحة التي ألمت بالقضية الفلسطينية، وعلينا نحن الأكاديميين ألا نسمح لهم بتزوير الحقائق والخروج بنتائج وهمية عن انتصارات مزيفة، لأن هذا الدور بالنسبة لنا يعتبر مسؤولية أخلاقية وعلمية لا يمكن التخلي عنه.