تابعت باهتمام كبير الصخب الذي أثير حول دعوة الرئيسأبو مازن للعرب والمسلمين، لزيارة القدس، من استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد قال في هذاالصدد كلمات موجزة ولكنها واضحة وحازمة وقاطعة كحد السيف «بأن زيارة السجين لا تعنيالتطبيع مع السجان، بل تعني بكل المعاني التطبيع مع السجين والوفاء له ونصرته».

وبطبيعة الحال، فإن القدس لؤلؤة عصورنا، وزهو عقيدتنا،ومعجزة رسولنا العظيم في إسرائه ومعراجه، ورمز ميراثنا الحضاري، هي الآن تحت الاحتلالالإسرائيلي، وكانت قبل ذلك تحت الاحتلال البريطاني، ومن قبله تحت الاحتلال الصليبيالفرنجي في زمن الحروب الصليبية، وتحت الاحتلال الروماني !!! وعبر كل تلك الوقائع والأحداثوالحقب لم يفت أحد بتحريم زيارتها، إلا في هذا الزمن الرديء المتهالك، حيث المتاجرونبالقدس، المتعيشون على قدسيتها ودمها ودموعها وعذابها، يريدونها أن تظل هناك، مرميةوراء السياج، وراء الذاكرة العملية، وراء التماس اليومي، من أجل أن يتاح لهؤلاء التجاروالسماسرة والغشاشين والمخادعين، أن يتعيشوا على حسابها وعلى قفاها، فباسم رفض التطبيعيأكلون ويشربون ويشكلون جمعيات ومؤتمرات وندوات، بل إن بعضهم شكل جيوشا، ويحصلون علىما يستطيعون الحصول عليه ، وإلا بربكم فلماذا هم نحتوا بعض المصطلحات مثل مصطلح القدسوقف عربي ، ثم مصطلح القدس وقف إسلامي ، ثم مصطلح تحريم زيارة القدس، ثم مصطلح عدمالتطبيع ويشهد الله أنهم أول المطبعين وأدناهم قدرا !!!

هل كل ذلك من أجل تحرير القدس، أو من أجل نصرة القدس،أو من أجل تجريد الجيوش الجرارة لتحريرها؟ لا والله، ليس الأمر كذلك مطلقا، بل لمجردأن يظل هؤلاء المخادعون وحدهم الذين يبيعون ويشترون، بينما القدس تتآكل، وتعاني، وتتألم،تحت قبضة الاحتلال وتحت برامج التهويد، ولا من ولي ولا من نصير .

في الفترة الأخيرة: حدث في جوف هذه الأمة تطور شجاعجدا، تمثل في زيارة بعض الرجال الأعلام في الأمة، الذين لهم من العلم بالدين والقرآنوالسنة ما ليس عند غيرهم من المنافقين والأدعياء، ووهبهم الله من الشجاعة ما ليس عندالجبناء المستوعبين بالمطلق في اللعبة الصهيونية اليهودية الإسرائيلية.

من بين هؤلاء الرجال، الداعية الإسلامي اللامع القادممن عمق بلاد النصرة الإسلامية ومن جذور العروبة العريقة في حضرموت في اليمن، وهو الداعيةالحبيب علي الجفري، أما الرجل الثاني فهو من أعلام الاجتهاد الإسلامي، من بلد الايمانالأول، مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة، حيث قام الرجلان بخطوة للقفز فوق السياجومداهمته ليعرف العالم من هم الذين يختبئون وراء ذلك السياج من المخادعين والتجار وصغاراللصوص الذين ينهشون لحم القضايا المقدسة.

وبسبب هذه الزيارات فقد أثير في المحافل العربية علىوجه الخصوص غبار كثيف كاد يحجب الرؤية، ولقد كتبت عن الرجلين والزيارتين، وقلت ان منهاجموا الرجلين في المحافل العربية، هم جميعا ممن لا تؤخذ لهم شهادة، فهم جميعا ينتمونإلى أحزاب أو جماعات أو شلل منحازة، مبرمجة، تنضح كل يوم باللامصداقية، لا عهد لهمولا وفاء، وبالتالي فإن هجومهم على الرجلين العلمين منحهما مصداقية إضافية، وجعلهماأكثر اشعاعا في ربوع العالم العربي والإسلامي.

الذي أثار سخطي وازدرائي، هو أن بعض الفلسطينيين منالذين يعيشون مثلي تحت الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، والذين ليس لهم في الفقهوصحيح الدين وأصول التوحيد أي قدر من المعرفة، انخرطوا مع بقية المتنطعين في الجوقاتالغبية، وادلو بدلوهم في الهجوم على الرجلين، فإذا بهم ينضحون بالنفاق والرياء ليسإلا.

لا أعرف كيف يتأتى لفلسطيني أن ينفخ أشداقه غضبا بدعوىأن عربيا مسلما يزور القدس ويختم جواز سفره من الاحتلال الإسرائيلي – مع أن الداعيةالحبيب علي الجفري والمفتي الدكتور علي جمعة لم يحدث معهما ذلك – فيصرخون يا للهولويا للويل ويا للثبور .

أريد أن أتساءل: هل هناك أحد في الوطن العربي أكثر شرفاأو نضالا أو إيمانا من أي مقدسي يعيش في القدس, ويصمد في القدس, ويدافع عن شرف الأمةودينها وميراثها من خلال تشبثه بالقدس؟ مع أنه يتشبث ببطاقة الهوية الزرقاء, وهي هويةنصف إسرائيلية, وليس للاحتلال الإسرائيلي من شغل شاغل سوى تجريد المقدسي من هذه الهويةنصف الإسرائيلية؟

وهل هناك في الأمة من أقصاها إلى أقصاها, من أهدى لفلسطينوللقدس حقها, وحفظ لها مجدها, وخلدها بمعانيها الراقية, أكثر من توفيق زياد, وسميحالقاسم, واميل حبيبي, ومحمود درويش والشيخ رائد صلاح, الذين يحملون رغما عنهم الجنسيةالإسرائيلية, ولكنهم كانوا وما زالوا رموز العطاء والوفاء الحقيقيين للعروبة والإسلاممن خلال وفائهم لفلسطين؟

وما هو حكم الملايين من الفلسطينيين الذين يعيشون فيالضفة وقطاع غزة فيتنقلون عبر الحواجز والبوابات ونقاط التفتيش الإسرائيلية, ويدخلونويخرجون بتصاريح وموافقات إسرائيلية, فهل أحد غيرهم يحفظ للقضية بقاءها, ويحفظ للقدسمن الاشتباك؟

ما هذه التفاهة المقززة, حين يسخر فلسطيني, ويحذر ويتبرأمن زائر عربي أو مسلم للقدس, جاءها لنصرتها, حتى لو وضعوا على جواز سفره الختم الإسرائيلي؟

هل هكذا تقاس الأمور يا أيها البعض القليل الأحمق منالفلسطينيين البائسين؟ وهل معنى ذلك أنكم تحتقرون أنفسكم وأهلكم, وشهداءكم الخالدينوأسراكم البواسل, لأنه تسري عليهم بعض الاجراءات الإسرائيلية؟ مع أن بعضكم على استعدادأن يبيع أمه وأبيه لقاء أن يكون معه أي جواز سفر أجنبي, فكيف تسقطون في النفاق إلىهذا الحد البائس؟

كل من يؤمن بالقدس فهو شجاع وفارس عربي وإسلامي وانسانيحتى ولو زارها ووصل إليها ولو على جناح أحد العفاريت? وكل عاجز منكفئ على أوهامه لايساعد القدس, ولا ينجدها, ولا ينصرها, فهو ملعون حتى لو امتلأ فمه بالشعارات الكبيرةلكي يصرخ بها كالمجانين !!!

إن زيارة القدس هي إحياء شجاع لعاصمة فلسطين, وهو إحياءشجاع للعقيدة الإسلامية, وهو فهم صحيح لعبقرية الإسلام, واختبار حقيقي للوطنية الصادقة,أما العاجزون الذين لا يفعلون شيئا سوى النميمة والبكاء ولطم الخدود, لعلهم ترمى فيحجورهم صدقة, أو يبتلعون ريقهم بحبة تمر, أو يدعون إلى مؤتمر منافق لكي يدس في جيبهمبعض النقود!! فأولئك هم غثاء السيل, الغثاء كثير, ولكنه يذهب جفاء كما قال رب العاملين,ولا يبقى في ذاكرة الأرض والناس والتاريخ إلى ما ينفع القدس, ويمنحها نبضة من قوة,أو لقمة خبز, أو رشفة ماء.

فلعنة الله على المنافقين