محمد سرور

فتح ميديا/ لبنان،يقال عن الإبداعأنه المختلف والمميز، الخارج على النمط والاقتباس والتقليد.

ويقال أيضاً: هوالتحرر من كل أشكال الكبت والمنع، والمقترب أكثر من ممارسة الخطيئة كفعل سياقي ضروريوليس كمجرد فعل مسقط واستعراضي. هذا يعني أن الإنعتاق الذاتي الموضوعي من رواسب الرقابةوالقيود المتوارثة - التي يجب إزالتها- ضرورة لخلق مناخ منفتح على مدى الفكرة، مناخمحلق في أثير الأسئلة المقلقة ومشرَّع على الماهيات، ومقتحم للأبواب التي كانت ولمتزل مغلقة ومموهة بستائر الغموض والترهيب الذاتي والعام.

فالحرّيات كمنهجٍفكري- اجتهادي تكتسب من خلال الاستعداد لحمل الهمِّ الثقافي، بمنأى عن التردد الذييستحضر مساحة رمادية أو قاتمة تقتل الفكرة أو تختزل المدى المفترض أن تحلق فيه. الانسيابفي مجرى الفكرة حتى آخرها هو الضمانة لشق مساحة الساحة الكافية لبلورة ملامح الابداع،كونه السلوك المتهور والمستهتر في آن واحد. على الساعي إلى ذلك العالم أن يتجرع كؤوسالهذيان كلها، غير مبال لطريقه وللآخرين من العابرين وملائكة العسس.

ما سبق يعني ضرورةالتفلت من حساب الثمن الذي قد يدفع كفاتورة لعمل أو مسار ما، باستثناء ما يحمله جهدهمن جودة ومتانة وصلابة في السبك والعمق، لأن الإبداع الحقيقي يعني المواجهة أو الاصطدامبالواقع المعيق، لا مداراته ولا مجاراته.

فالمبدع ينطلقمن نماذج المبدعين في التاريخ، الذين دفعوا ثمن إبداعاتهم وخروجهم عن السياق التقليديالذي حاول الظلاميون والظالمون بقاءه وفق تصوراتهم وقناعاتهم ومصالحم أيضاً. هؤلاءليسوا حكرا على مرحلة معينة من التاريخ، ولا حكراً على قومية أو أثنية أو دين أو فكر،إنهم أبناء الزمن الممتد منذ روما القديمة وحتى اليوم.

تقول النظرياتأيضاً عن الإبداع، أنه يستحيل وجوده دون مناخ محفز وداعم له، وأن التطور المذهل الذيأنتجه عالمنا المعاصر لم يكن ليحصل في حالة القمع والمنع، إذ أن التطور عمل متكامل-متراص في اختلافه وتشعبه، تتشارك فيه البنى الكيانية والإنسانية على اختلاف أوجه حياتها،والتي خلالها تنتج الروائع وتتألق الأعمال الكبرى والعظيمة التي تلامس الإبداع وتتعداهأحياناً.

للأسف، لدينا مقاييسمختلفة تعريفاً ومنطلقاً. فمن جهة لا وجود عندنا لإبداعات تحاكي الإنسانية- حسن كاملالصباح ومايكل دبغي وجبران وأدوارد سعيد وغيرهم من النماذج النادرة. فيما الكثير منجماهيرنا تصفق اليوم لمغن أو مغنية أو خطيب أو شاعر تحدث لغة إثارتهم ونجح في استحصارعصبياتهم الدائمة الفوران، ومقابل ذلك نشاهد الهوس بالاستهلاك بكل معانيه وأبعاده،فنقيم المآدب والعرضات ونعلن المفاخر والهيصات تجاه أمور لمجرد الحصول عليها أو وصولهاإلى مجتمعاتنا.

لابد من الإشارةإلى وسائل إعلامنا على اختلافها، كمثيرة دؤوبة للعصبيات والغرائز، فهي تتعامل مع المعرفةوالثقافة من مقاييس تنفعها منها، ومن مقاييس اقترابها إليها والتبشير بما يعتقده القيمونعلى هذه الوسائل، إذ أن المعرفة والثقافة، وبالتالي السهر على بروز أعمال إبداعية،خارج مفكرة هؤلاء.

إضافة إلى ذلكتمنح وسائل إعلامنا السبابين والشتامين والرادحين بكل مفردات التضليل والضلالة المساحاتالكبرى من وقت وورق وصوت، ويُتعمد تغييب الأصوات والأقلام التي تسهم بتنوير الذاكرةوتحفيز الناس على التفكير وتلمس دروب الحقائق والأولويات.

جبران خليل جبرانفي مجتمعاتنا لا ينظر إليه كظاهرة إبداعية على المستوى الإنساني، لأنه يطيّف ويمذهبويسيس بشخصه وإنتاجه. محمود درويش، ورغم استحالة غيابه وتغييبه تتجاهله الكثير من المنابرووسائل الإعلام، لأنه لا يضرب على الوتر العصبي لهذه الفئة أو تلك. نجيب محفوظ يكفرودمعه يشاع لدى أمراء الإرهاب والظلام، وحتى لدى بعض الذين يصادرون المفردات التي تحاكيالضوء والنور والهداية.

يقابل ما ذكرناهأسباب عميقة وجوهرية قامعة في الظاهر والمضمون، حيث نرى كل طائفة ومذهب وتيار أو حزبسياسي أنتج مقدساته وأصنامه التي تكفر كل من يعارضها أو ينتقدها، فيعلن الغضب وتقومحروب النبذ والنفي والذم والتخوين، ومن خلال هذا الواقع يتم تنسيب وتنصيب المفخمينوالمادحين بمقدس أو صنم هذا الطرف أو ذاك كمبدعين كبار، تفرد لهم كل مساحات الحضوروالتألق.

الموضوع لم يطرحللشكوى ولا لاستثارة ما بقي من ضمائر حية، فبرغم كل ما يتضمنه من مرارة الواقع وصعوباته،ينبغي الإقتداء دائما بالجنود الذين سطروا بدمائهم وأعمارهم ولياليهم المعتمة وراءقضبان الزنازين والمنافي رسالة الإبداع.

الإبداع في بعدهالثقافي- الحضاري فعل اعتراض بالحجة والبرهان، فعل تمرُّد على واقع لا يضمن الأمانلإنسانية تضيق عليها المسافة بين الأرض والسماء. لذلك ينظر الناس جميعاً إلى نماذجنادرة من البشر، تتمنى أن تشبهها وأن تكونها، تلك النماذج العصية على الترويض والهزيمةوالبيع والشراء، النماذج التي عاشت وتعيش برضى وانسجام مع نفسها، لكنها تقول ما تقتنعبه، لأنها تمتلك ألوان قلمها وريشتها وإزميلها وطبقات صوتها، وقبل ذلك تمتلك الثقافةوالإرادة والروح المنذورة للبهاء.

أسباب الخوف كثيرة،والخيارات بين دروب الشوك والمصالح الذاتية ضيقة جداً، حيث أعتى المفكرين والفلاسفةسجدوا لرخام القصور والمكاتب الفخمة، فكيف بالذين يقض مضاجعهم السؤال عن الغد والمستقبلومطالب الحياة وضروراتها؟

ينبغي الدق علىصدأ الواقع بمطرقة الضوء، وصياغة الملامح  الإنسانيةبريشة وقلم الوعد الغني بالثقة والمبادرة... بذلك يكون  الاسهام في تغيير الواقع.

أخيراً: لكي نخطوعلى طريق الإبداع يلزمنا الإقلاع عن الخنوع وتصويب الاصبع إلى عين الهدف... وإطلاقفراشة الحبر الجميلة.