فتح ميديا/ لبنان، منذ نشوء الدولة الحديثة وإلى الآن لم يتواجه شعبان بالمستوى المقفل والمستحيل الحل الذي يشبه الصراع على أرض فلسطين.

في العصور الحديثة تتطابق القضية الفلسطينية باستعصاءاتها وصيرورتها مع مصير القارة الأميركية في ذروة الطغيان الاستعماري- الإحلالي  منذ بدايات القرن الساس عشر وحتى بدايات القرن العشرين.

التطابق بين المصيرين تشهد عليه تنازلات كل من هنود القارة الأميركية وفلسطينيي الأراضي المحتلة. وبذات القدر يشهد عليه التزام الهنود بالاتفاقات والإيمان بالتعايش مع الوافدين إلى القارة العذراء، تماماً  كالفلسطينيين الذين يريدون "وطناً تحت الشمس" أسوة بكل شعوب العالم المتحضر ووفق مقررات المؤسسات والقوانين الاممية.

فالتجربة الفلسطينية مع الاحتلال الصهيوني، منذ انطلاق الثورة مطلع العام 1965، مروراً بمراحلها كافة، لم تتحدث عن إبادة اليهود ولا عن رميهم في البحر، على طريقة بعض المنظرين والغلاة. بل أن الفلسطينيين عملوا تحت سقف الشرعية الدولية، ومن جبهتي الصراع- العسكري والسياسي. حتى أن خطاب الرئيس الشهيد ياسر عرفات في الأمم المتحدة، وبرغم الطعون التي وجهت إليه، من بعض العرب وقوى الرفض الفلسطيني، شكل العلامة الفارقة في مسار التعامل مع القضية الفلسطينية لجهة الاستعداد للسلام وفق مضمون القرارين 242 و 338، على أن يتبعهما تنفيذ القرار 194 الخاص بعودة اللاجئين إلى أرضهم وديارهم.

في موازاة ذلك، تلتزم الحكومات الإسرائيلية سياسة تعويم القلق والخوف على المستويين الداخلي والإقليمي، مما يتيح تأبيد حالة اللا الحرب أو اللا سلم، رغم معاهدتي كامب ديفيد ووادي عربة بين إسرائيل وكل من مصر والأردن. واللافت في الأمر الرعاية الأميركية المبرمة للسياسات الإسرائيلية منذ العام 1967 وحتى الآن، مضافا إليها سياسة أوروبية تتراوح بين الدعم الكامل لإسرائيل والسعي الخجول لإنتاج تسوية تراعي كل المطامع الإسرائيلية تحت شروط  ومواصفات تنسف أسس قيام الدولة الفلسطينية الكاملة والناجزة على كامل الأراضي المحتلة عام 1967.

للأسف الرعاية الأميركية والخطاب الأوروبي الانتهازي يتجاوزان مسألة حماية اليهود وعقدة الذنب التي خلفتها الهولوكوست في اربعينيات القرن الماضي على يد النازية، إلى مسألتين إستراتيجيتين وتاريخيتين. الأولى تمثل دور إسرائيل الحاسم في قلب المنطقة العربية وفي المدى الإقليمي والعالمي المتمثل في الحرب الباردة وما تلاها من حروب أخرى مبتكرة ومستجدة- كالمواجهة مع إيران ومراقبة البحر المتوسط والمضائق ورعاية الأزمات والاختراقات العسكرية والأمنية، ثم تمثيلها دور الترسانة التي تمد الانتشار الأميركي العسكري في المنطقة وصولاً إلى آسيا وأطراف أوروبا.

والثانية تمثل البعد الأخلاقي لنشأة الولايات المتحدة الحديثة، والتي قامت على العنصر البشري الأوروبي. فكل ما حصل من أعمال إبادة بحق الهنود الحمر في القارة الأميركية كلها تم بواسطة الجنود والمستوطنين الأوروبيين الوافدين للقارة العذراء، وهنا المفارقة العجيبة، إبادة أكثر من 75 مليون هندي أحمر لم تشكل خللاً أخلاقياً في الضميرين الأميركي والأوروبي، فيما الهولوكوست باتت من الثوابت المقدسة في ثقافة هذين الضميرين. بالمقابل تستثمر إسرائيل المحرقة بصفتها الخطيئة التاريخية التي لوثت وجه أوروبا الحديثة، وبالتالي فإن على أوروبا أن لا تعارض أي سلوك إسرائيلي تجاه الآخرين باعتبار أن إسرائيل فوق المساءلة الأخلاقية، وأن أي عمل تقوم به لا يمكن أن يوازى بما حصل لليهود في أوروبا.

لم يكن ما سبق ذكره يمثل خاتمة الأسباب للرعاية الأميركية- الأوروبية للاحتلال الإسرائيلي بأبعاده وتجلياته. فالنظام العربي الذي واكب مراحل الصراع كلها، كان ولم يزل يمثل ذروة العجز البنيوي والتخلف في مداه الأقصى. كيف ولماذا؟

بكل مرارة نقول: إن النظام الرسمي العربي وبواسطة آلته القمعية وخطابه السياسي الممجوج والخالي من الفاعلية أوقع الشعوب العربية في بؤرة التخلف القاتلة، حيث وعلى مدى أكثر من ستين عاماً كانت التنمية الاقتصادية معدومة نظراً لفقدان النظام أدنى مقومات الخطط والبرامج العلمية التي تتيح تنظيم وترشيد وتحسين آليات ووسائل الإنتاج. ولأن الديمقراطية غائبة والمؤسسات التي يفترض حملها مسؤولية الرقابة والمحاسبة غير موجودة، فإن الفساد بمعناه الرسمي كان السمة التقليدية لتصرف طبقة النظام بالموارد والخيرات التي تنتجها البلدان العربية كافة.

 والأهم مما سبق شراء النظام مسألة من الولايات المتحدة والدول القادرة على التلاعب بمصيره مقابل رعاية الواقع بشكله ونموذجه القائم كمنع الشعوب من التطلع إلى التغيير والاهتمام بالخيارات التاريخية للأمة وبخاصة القضية الفلسطينية.

نظام بلا موارد اقتصادية لإنتاج يقود إلى الاستقلالية عن الدول الصناعية والزراعية، خالٍ من الحوافز والمؤسسات الديمقراطية، يمارس أبشع أنواع الحصار والقمع ويرعى التخلف وإفقار الشعب، كيف يواجه دولة مؤسسات وقوانين وتطور اقتصادي- صناعي- كإسرائيل أمام الرأي العام الرسمي والشعبي؟

باختصار، نحن الآن أمام مسارين من الأولويات متلاقيين ومتباعدين في آن واحد. فمن جهة يطرح التغيير هموم الشعوب الكثيرة والمتشعبة وضرورة وضع الحلول اللازمة لها، والواقع يفترض تخطيطاً جدياً وعمليا لإعادة بناء المجتمعات واقتصاداتها ومؤسساتها المواكبة والراعية، وهذا يفترض أيضاً جهوداً تلامس المستوى التاريخي. ففي ظل احترام هذه القضايا العميقة والبالغة الصعوبة، كيف تستطيع شعوبنا العربية دعم القضية الفلسطينية ودفعها بقوة تمثل تعديلاً تاريخياً بحجم وفاعلية تأثيرها ثانياً؟