كلما تزايدت الآمال بنجاح الجهود لوضع الاتفاقات المتعلقة بالمصالحة الوطنية الفلسطينية موضع التنفيذ، ظهرت عقبات وأسباب، تبدد هذه الآمال، وتحيلها إلى احباطات وعدم ثقة، لا بالجهود ولا بأصحابها، والأهم، عدم الثقة بتوفر إرادة حقيقية لدى مختلف القيادات الفلسطينية بالتوصل إلى مصالحة فعلية، ووصل الأمر، إلى أن الرأي العام الفلسطيني، لم يعد يكترث بالأخبار والبيانات والتصريحات والخطابات والوعود الكاذبة المخادعة، حول هذه المصالحة، والواقع أنه بات يدفع ثمن صمته وعزلته عن الجهود الحقيقية بالضغط على أركان الانقسام للعودة عن متاجرتهم بآمال الشعب الفلسطيني، وبيعهم الأوهام الخادعة واستمراء التخلي عن المصالح الوطنية لصالح مصالح شخصية وفئوية رخيصة.
لقد تم تغييب الشارع الفلسطيني، الضحية الأولى والأساسية للانقسام، عن التأثير على مجرى الأحداث، وعلى الأخص، الجهود نحو إنهاء الانقسام، عندما تفرّدت القيادات الفلسطينية على اختلاف تلاوينها السياسية، في هذه الجهود الرامية في واقع الأمر إلى الانتقال من إدارة الانقسام إلى إدارة الاقتسام، وحتى هذه الأخيرة، رغم مأساويتها، فإنها لم تتحقق بسبب الصراع على الحصص، وأكاد أقول: إن الجمهور الفلسطيني يستحق ما لحق به، لأنه منح ثقته لأطراف لا تستحق هذه الثقة، ولأنه لم يجرؤ حتى الآن على أن يطرح على بساط البحث، محاسبة ومعاقبة كل الأطراف التي تسببت في هذا الانقسام واتخذته وسيلة للتربّح المادي والمعنوي، إذ مازال الجمهور الفلسطيني لم يصل إلى هذه المرحلة، وفي أفضل الأحوال فإنه يترقب ويدعو هذه القيادات المسؤولة عن لعنة الانقسام كي تنهي جريمتها بحق الوطن والمواطنين.
تأخر الجمهور الفلسطيني كثيراً عن القيام بدوره من خلال التأثير الهائل للرأي العام على مجريات الأمور، أو كل القيام بهذه المهمة التي تبدو مستحيلة لصانعي الانقسام حتى تثمر المصالحة، تداعت فصائل وطنية ومنظمات المجتمع المدني ووساطات عربية، من أجل تسهيل التوصل إلى مصالحة حقيقية، لكن كل هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح بسبب وجود طغمة تجد مصالحها في الإبقاء على الوضع الراهن، بل في تعزيزه وهو ما يجري على الأرض فعلياً، النوايا الصادقة هزمت أمام المصالح والامتيازات، وظل الرأي العام الفلسطيني متشبثاً بالوعود الخادعة والآمال المهشمة، ولم يتعلم من تجاربه التي تشير إلى أن صانعي الانقسام لن يصنعوا المصالحة.
وكانت إحدى أولى ثورات "الربيع العربي"، قد حدثت في فلسطين، في 15 آذار من العام الماضي، بالضبط، مع انطلاقة "ربيع دمشق" في نفس اليوم، "ربيعنا الفلسطيني" استمر ليوم واحد، بينما "ربيع دمشق" مازال مستمراً، "الربيع الفلسطيني" جُوبه بكل أدوات القمع والبطش، وتم إخماده، "الربيع السوري"، جُوبه ولا يزال، بكل أدوات القتل والتنكيل، لكنه مازال مستمراً رغم سقوط آلاف الشهداء والضحايا، والمقارنة هنا لا تستجيب للواقع، إذ إن "ربيعنا الفلسطيني" لم يكن يهدف إلى إسقاط النظام، بل إلى توحيده، مع الإبقاء عليه موحداً، بينما "الربيع العربي"، بما فيه "ربيع دمشق"، كان ولا يزال يهدف إلى إسقاط النظام، وإعدام ومحاكمة نخبته الحاكمة، وبصراحة هذا الفرق، لصالح الشعب السوري وشعوب "الربيع العربي" كلها، مع أننا في فلسطين الأشدّ حاجة إلى ربيع يطيح بكل أدوات الانقسام المرتبطة بمصالحها والمتجاوزة للوطنية الفلسطينية.
وإذ كان صحيحاً أن المفصلين الأساسيين، حركتي "حماس" و"فتح"، تتحملان المسؤولية الأساسية عن هذا الانقسام، فإن الصحيح، أيضاً، أن تراجع تأثير الفصائل الوطنية، وانغماسها في الحديث عن المحاصصة، رغم أنها تطالب بحصتها، تتحمل مسؤولية تاريخية عن استمرار أزمة ولعنة الانقسام، إذ إنها بدلاً من أن تقود الجمهور الفلسطيني وتعزيز دور الرأي العام، جنح بعض أجنحتها لموالاة اليمين الوطني الفلسطيني، بينما بعض منها جنح لموالاة اليمين الديني، وباتت جزءاً من اللعبة السياسية من الناحية الواقعية رغماً عن كل الشعارات المطروحة.
وطوال فترة الانقسام، كانت تبرز هنا وهناك، محاولات جدية، من قبل فئات من الرأي العام الفلسطيني، بضرورة الانطلاق لمواجهة لعنة الانقسام، إلاّ أنها سرعان ما تخبو وتستكين مستهلكة الوعود والاجتماعات والاتفاقات، التي لم تفعل، سوى أنها قامت بتخدير الجمهور ومساعيه نحو الارتقاء بدوره كي يكون أكثر فاعلية لإنهاء حالة الانقسام.
اليوم، تعود إلى محاولة تعزيز دور الرأي العام الفلسطيني لإنهاء حالة الانقسام من خلال الدعوة إلى "قرع الطناجر" في اليوم الأول من شباط القادم، من قبل كل فرد وكل عائلة، من الشبابيك والأبواب وفي الشوارع، كجزء من سلسلة فعاليات جماهيرية لطي صفحة الانقسام، وتعبيراً ليس عن غضبة الشعب، فحسب، بل هو تذكير بأن الشعب لن يصمت بعد اليوم ولن يظل نهباً للوعود والخداع، وأكثر من ذلك، فإن هذا التحرك يشير إلى الشعب أخذ زمام المبادرة بعدما سقطت أقنعة المصالح التي عززت الانقسام تحت ذريعة إنهائه، إنه تحرك، يتوجب على القيادة الفلسطينية، على اختلاف مشاربها السياسية، أن تخشى من مواجهته ليس بالوقوف في وجهه، ولكن من خلال تعزيزه والبناء عليه للتأثير على كافة القوى والفئات التي هدرت الكثير من الجهد والوقت من أجل الإبقاء على مصالحها الضيقة.
وفي سياق كتابتي لهذا المقال، تذكرت رواية الكاتب الأميركي الشهير أرنست همنغواي، وهي "لمن تقرع الأجراس" وهي رواية شبه وثائقية لأنها تتحدث عن الحرب الأهلية في إسبانيا بين عامي 1936ـ1939، حيث شارك الكاتب في هذه الحرب إلى جانب الشيوعيين والاشتراكيين ضد الفاشية بقيادة فرانكو، وعندما تقرع أجراس الكنائس، كانت إشارة إلى مواجهة ومعركة، استفاد المنظمون من أجراس الكنائس، لتوقيت المواجهة، ونحن، إذ ليس لدينا كنائس وأجراسها بما يكفي لتوقيت المعركة مع الانقسام، ولأن مكبرات صوت الجوامع لا تزال صامتة للوقوف في وجه الانقسام والانقساميين، فإن قرع الطناجر، قد يشكل بديلاً لمواجهة كل أطراف الانقسام من كافة جهاته.
إننا نتطلع إلى الفاتح من شباط، لتأكيد انعتاق الجمهور الفلسطيني، في الضفة الغربية وقطاع غزة من ربقة الاستسلام للأمر الواقع، وعلى وقع قرع الطناجر، المتوفرة في كل بيت، سنرسم المشهد الجديد، مشهد الشعب وهو يعود كي يلعب دوره الذي كان غائباً ومغيباً، في رسم مستقبل قضيتنا الوطنية، بقرعنا للطناحر، سنجبر كل من تجاوز إرادة الشعب على أن يستمع إلى معاناته على الرغم منه، وسنتجاوز بذلك، التقليد المتعارف عليه، كون قرع الطناجر تعبيراً عن الفقر والبطالة، إلى اعتباره، أيضاً، تعبيراً عن السأم من استمراء خداعنا من قبل القيادات السياسية، وبات قرع الطناجر تعبيراً عن الأزمة السياسية، متجاوزاً الأزمات الغذائية، فهيا نقرع الطناجر.. هيا!!
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها