لا يكاد يوجد فرق بين دولة اسرائيل القائمة حاليا، وبين الوكالة اليهودية التي تشكلت في اعقاب المؤتمر الصهيوني الذي عقد في بازل بسويسرا في نهاية القرن التاسع عشر وتحديدا في العام 1897 على صعيد الفكر والسلوك الاستيطاني، فحتى قيام دولة اسرائيل وفقا لقرار التقسيم 181 في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947، وتنفيذ هذا القرار في الخامس عشر من ايار عام 1948 ونحن نرى المشهد نفسه، السياج والبرج والبيوت وحبل الغسيل الذي يوحي بان هذه المستوطنة التي اقيمت تحت جنح الظلام على ارض تم الحصول عليها من الخليفة العثماني وادارته او من الانتداب البريطاني وادارته بوسائل كثيرة ملتوية السياج لحماية المستوطنة من اصحاب الارض الفلسطينيين، وبرج المراقبة لمراقبتهم، أما حبل الغسيل فهو الخديعة التي توحي بان هذه المستوطنة قديمة ومستقرة وان سكانها هنا موجودون منذ زمن طويل.

بل انه حين حصلت دولة اسرائيل على شهادة ميلادها بقرار التقسيم فان القيادة الاسرائيلية ضخمت الى اقصى حد ما اطلق عليه كذبا الرفض الفلسطيني لقرار التقسيم، فلم يكن الشعب الفلسطيني وقتها هو الذي يقرر، وجميع اللاعبين آنذاك كانوا خصوما ألداء للقيادة الفلسطينية التي يمثلها الحاج المفتي امين الحسيني وقائد جيشه عبد القادر الحسيني، وكانت اسرائيل مع حلفائها يتظاهرون بانهم موافقون على قرار التقسيم، بينما كانوا يأملون ان يكون التقسيم بينهم وبين اطراف عربية اخرى، الى ان يحين اوان القفزة الثانية، فتأخذ اسرائيل الارض التي تقاسمتها معهم بحجج مختلفة ومنمقة ودعاوى محرجة في احيان اخرى مثل القول ان هذه الارض بقيت تحت سيطرة هؤلاء فلماذا لم يقيموا فيها دولة للفلسطينيين ان كانوا صادقين؟

من المؤسف انه بعد عقود من القفزة الاسرائيلية الثانية التي جرى فيها احتلال القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والحمة ومثلث كعوش في الشمال فان اسرائيل وجدت لنفسها او صنعت لنفسها شريكا فلسطينيا يؤمن لها كل مقولاتها، وهي حركة حماس التي استولت على قطاع غزة في العام 2007، وتوغلت مع اسرائيل تحت رعاية الاخوان المسلمين في مشروع خطير يخرج قطاع غزة من المسار الفلسطيني ويدفعه باتجاه صحراء سيناء، للتأكيد على المقولة الاسرائيلية القديمة الجديدة بأن الشعب الفلسطيني زائد عن الحاجة وان الكيان الوطني الفلسطيني ليس مكانه هنا، بل هناك وراء السياج في صحراء سيناء او في اي بديل آخر.

وكلما وجدت اسرائيل نفسها في مأزق في مواجهة قرارات الشرعية الدولية او حل الدولتين او ضرورة الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967، فانها لا تجد ما تقوله سوى تكرار مقولات المشروع الاستيطاني نفسها، وتكرار الحكاية التافهة بأنه لا يوجد شريك فلسطيني، وان دولة حماس المتوهمة لا تسيطر عليها اي شرعية فلسطينية!

قد يكون كل ما ذكرته في هذا المقال مكرر، لا جديد فيه، ويعرفه جميع المهتمين، وموجود في الآلاف من الكتب والوثائق والوقائع والاحداث اليومية! هذا صحيح تماما، ولكن من المهم التأكيد عليه كل يوم لكي يترسب في جيناتنا ان اسرائيل مشروع استيطاني وان الاستيطان هو روح اسرائيل، وهو المكون الاساسي لحومتها الحالية، والرابط الاساسي بين مكونات الائتلاف القائم الآن! وانه دون ان يتعرض هذا المشروع للخسائر الكبيرة الباهظة، فان اسرائيل لن تستجيب لأي نوع من حديث السلام، برغم ان اغراءات السلام المقدمة لها كبيرة جدا بما يفوق الخيال.

انا شخصيا مستبشر بان هذا المشروع الاستيطاني لن يظل هكذا عظيم الارباح وعديم الخسائر لأن هذا المشروع الاستيطاني جشع جدا ومتهور جدا وعدواني وعنصري الى اقصى الحدود، وفي لحظة فارقة كشف عن جشعه بأكثر مما يجب حين اعلن انه يريد ان يكون المطلق في المنطقة بدولة يهودية تكون هي الآمر الناهي لكل دول الطوائف!

الخطر ماثل بشكل حقيقي وقريب، واعتقد ان سقوط جماعة الاخوان المسلمين تم على خلفية الشعور بهذا الخطر، والقرارات الصادرة ضدها تمت على خلفية هذا الشعور القوي بالخطر، ويجب ان نكون فلسطينيا جزءا من الميلاد الجديد.