يقول توم سيغف، وهو من المؤرخين الإسرائيليين الجدد، "الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يدور على الأرض فقط. إنما على الدين والأسطورة أيضًا"، هذا الوصف قاله سيغف أثناء تناوله الصراع على حائط البراق (حائط المبكى) في القدس العتيقة. والذي نجمت عنه ثورة عام 1929. والتي يطلق عليها الفلسطينيون "هبة البراق". وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه قبل الصهيونية، كانت أقلية يهودية تعيش بسلام، ومتعايشة تمامًا مع باقي السكان، مسلمين ومسيحيين. حتى اليهود الذي جاءوا إلى فلسطين نهاية القرن التاسع عشر هربًا من المجازر التي كانت ترتكب ضد اليهود في روسيا وشرق أوروبا تم استقبالهم كمهاجرين بحاجة للمساعدة الإنسانية، وأن المشاكل قد بدأت تظهر عندما بدأ الشعب الفلسطيني يشعر أن تنامي المستوطنات هو أمر غير طبيعي. المشكلة الجوهرية، تكمن في الصهيونية، التي أرادت كل شيء، كل فلسطين وحصرت ملكية الأرض وحق تقارير المصير عليها "بالشعب اليهودي"، ولم تكن الصهيونية تكتفي بفلسطين، فخلال مؤتمر الصلح في باريس عام 1919، الذي عقده المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، قدم الوفد الصهيوني برئاسة حاييم وايزمان وسكولوف مذكرته إلى المؤتمر مرفقة بخارطة تبين حدود الوطن القومي اليهودي، المنصوص عليه في وعد بلفور. الخارطة شملت كل فلسطين بحدودها الانتدابية، بالإضافة إلى جنوب لبنان حتى شمال نهر الليطاني، وجنوب سوريا، هضبة الجولان، وشرق الأردن حتى أطراف الصحراء، أو حتى خط سكة الحجاز، ولأسباب استعمارية وما فرضته سايكس بيكو من تجزئة، تم حصر الطموح الصهيوني في حينه بفلسطين.
بالمقابل كان من الطبيعي أن يرفض الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية الناشئة التنازل عن أرض وطنه التاريخي. أو أي جزء منه، وبالتالي قاوم وعد بلفور، ولاحقًا رفض كافة الحلول التي كان من شأنها تقسيم بلادهم، توصية لجنة بيل لتقسيم فلسطين عام 1937. ورفض قرار الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1947 لتقسيم فلسطين لدولتين عربية ويهودية. رفض الشعب الفلسطيني جاء باستمرار على خلفية أن المقترحات غير منصفة، لا من زاوية تعداد السكان، أو مساحة الأرض بالقياس لعدد السكان ولا من حيث خصوبة الأرض الممنوحة للدولة اليهودية.
المنظمة الصهيونية ومن ثم إسرائيل لم تشعر أنها بحاجة لعقد صفقة سلام مع الفلسطينيين فقد قالها بن غوريون مبكرًا: ما حاجتنا لعقد سلام مع الفلسطينيين العرب، ونحن نمتلك دعم أقوى دولة في العالم بريطانيا الدولة الأعظم في العالم، المنظمة الصهيونية لم تكن تملك الدعم البريطاني المطلق. بل إن وعد بلفور قد تم تبنيه بعد الحرب العالمية الأولى، من عصبة الأمم عبر صك الانتداب، وتم دعمه من كافة الدول المنتصرة في الحرب في حينه، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، اليابان، كما تبنته، بل شاركت في صياغته الولايات المتحدة الأميركية، بالرغم من أنها رفضت عضوية عصبة الأمم. أما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد امتلكت المنظمة الصهيونية أوراق قوة إضافية، وما حصلت عليه من تعاطف نتيحة المحرقة النازية لليهود خلال الحرب، كما كانت الصهيونية في حينه تحصل على دعم القوتين الأعظم بعد الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. بالإضافة إلى الدعم التقليدي من بريطانيا.
الشعب الفلسطيني بالمقابل الذي لم يجد أيًا من الدول الكبرى إلى جانبه، كما كانت الدول العربية، لا تمتلك لا القوة ولا حتى قرارها المستقل، بالإضافة إلى انقساماتها فيما بينها، لم تكن قادرة بالفعل على تقديم الدعم المطلوب، ولم تكن في الواقع تمتلك القدرة على تقديم الدعم. أما الحركة الوطنية الفلسطينية التي انتهجت كل الوقت نهجًا رفضويًا، كانت منقسمة على نفسها، وفي واقع الأمر لم تكن قيادتها مؤهلة، أو قادرة، أو لديها الجرأة أن تقوم بأي محاولة جادة لعقد صفقة مع الوكالة اليهودية، يمكن أن تقلل من خسائر الشعب الفلسطيني، كما لم تكن الوكالة اليهودية بحد ذاتها تنظر إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، بأنها كذلك، ولا ترى أن الشعب الفلسطيني هو شعب له حقوق وطنية.
وبعيدًا عن التاريخ الذي سبق نكبة عام 1948. وبعيدًا عن مرحلة رفض الجانبين الاعتراف المتبادل، جاءت اللحظة التاريخية التي توصل فيها الجانبان إلى الاستنتاج بضرورة هذا الاعتراف، والمقصود هنا مسار اتفاقيات أوسلو، وهي الاتفاقيات التي اعترفت خلالها إسرائيل بالشعب الفلسطيني وبممثله الشرعي والوحيد منظمة التحرير الفلسطينية، واعتراف هذه الأخيرة بإسرائيل، وتم الاتفاق عبر خطوات ومراحل التوصل لاتفاق سلام نهائي ينهي الصراع بين الجانبين. السؤال لماذا فشل هذا المسار؟.
بعيدًا عن مناقشة الاتفاق بحد ذاته وما قد يكون فيه من ثغرات وعدم وضوح، فقد كان هناك التزام مشترك بالمضي بالاتفاق والمفاوضات حتى إنجاز السلام النهائي، ولكن هذا لم يحصل.. لماذا؟.
في إسرائيل، كان هناك تيار صهيوني واسع وعميق الجذور رفض الاتفاق وواصل الموقف القديم برفض الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه، تيار يميني ويميني متطرف. قام باغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين، الذي كان قد دعم الاتفاق، ومن ثم بدأ هذا الاتجاه المتطرف بعملية تدمير منهجي للاتفاقيات، بل وعمل على الأرض لخلق واقع يمنع أي فرصة للسلام. وفي الجانب الفلسطيني، كان هناك حماس التي بدورها قامت بكل فعل لتفشل مسار السلام، ومن خلال تقاطع مصالح الرافضين من الشعبين فشل السلام الذي كان بحد ذاته يتضمن عناصر كثيرة يمكن لأي طرف من خلالها افشال السلام، وإلى جانب القوى الرافضة للسلام من الجانبين، فإن إسرائيل أصرت على عدم الوضوح، وعدم الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، بالرغم من أن الاتفاق تضمن إشارات أن السلام النهائي سيقود لتحقيق حل الدولتين. لقد قادنا فشل تحقيق السلام حتى الآن إلى ما نحن عليه اليوم، حكومة إسرائيلية متطرفة تشن حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، وحماس من جهة أخرى لا تزال تخطف القرار الفلسطيني. والسؤال اليوم وبعد كل هذا التاريخ هل السلام ممكن؟.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها