بقلم: نادر القصير
في صباحٍ موشومٍ بالدخان والحطام، حين كانت الطائرات لا تُفرق بين بيتٍ وملجأ وسيارة، وبين طفلٍ ومقاتل، وقف إبراهيم أبو مهادي، أو كما استحب المغردون المتألمون على السوشيال ميديا بتسميته (العم إبراهيم) رجل في العقد السابع من عمره، يحاول أن يستوعب حجم الفاجعة التي حلت عليه.
ستة من أبنائه فلذات كبده، وسند عمره، ورفاق وحدته الطويلة، استشهدوا دفعة واحدة، محمد وأحمد ومحمود ومصطفى وزكي وعبد الله، بينما كانوا يجتمعون في سيارة أقلتهم إلى رحلتهم الأخيرة، وفي لحظة واحدة فقط اخترقها صاروخ الحقد الأعمى، كانت كفيلة بتحويل العائلة إلى ذكرى، والأب إلى رجلٍ وحيد لا يعود له سوى الله.
- وحدة ما قبل الفقد
عاش العم إبراهيم حياته كلها وحيدًا بعد أن تفرغ لتربية أبنائه الستة، بكل حب وصبر، كبروا أمامه، وتوزعوا في الأحياء يعملون ويساندونه ويحتفلون بأدق تفاصيل حياته.
كان بيته بيتًا دافئًا، لا يخلو من ضحكة أو صوت دعاء جماعي كل مساء.
- لحظة النهاية.. وبداية الحكاية
قال العم إبراهيم بصوت خافت، وهو يحتضن صورة جمعت أبناءه في عيد الأضحى الأخير: "سمعت صوت الانفجار، ثم سكون، انتفض قلبي واحتله الأنين، عرفت في قلبي أنني فقدتهم، الآن عدت وحيدًا، لم أجد أحدًا يرد على ندائي".
ما فعله بعد ذلك كان أعظم من كل ما شهده الحاضرون، العم إبراهيم يقف مع الناس أمام جثامين أبنائه الستة، ينظر لها الواحدة تلو الأخرى، في باحة المستشفى، توضأ، وصلى عليهم بنفسه. لم يصرخ، لم ينهَر، فقط وقف شامخًا، كأنما يستمد من السماء صبرًا خارقًا.
- العودة إلى الصمت
عاد العم إبراهيم إلى بيته لا حياة فيه ولا أبناء، فقط بقايا أصوات، وأشياء صغيرة لا تزال على حالها: كتاب قرآن مفتوح، فنجان قهوة لم يُكمل، وسجادة صلاة فقدت محبيها.
وختم حديثه، وهو يرفع يديه نحو السماء، يطلب الرحمة لمن رحل، والثبات لمن بقي، قائلاً: "بقيت وحدي، لكني مؤمن، ما أخذهم إلا الله، وما لي إلا الصبر".
في غزة، ليس غريبًا أن يُفجع الإنسان بأعز ما يملك، لكن أن تقف أمام رجل فقد أبناءه الستة مرة واحدة، وصلى عليهم بنفسه، ثم عاد إلى حياته وحيدًا دون أن ينكسر. فهذه ليست قصة فقط، بل ملحمة من الصبر، ودليل جديد على أن الألم في غزة لا يُشبه سواه.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها