الفن بأشكاله ومجالاته المختلفة: المسرح، السينما، الفن التشكيلي، الفن التعبيري عمومًا، الموسيقى والفلكلور الشعبي وغيرها من الفنون لعبت وتلعب دورًا هامًا في عكس السردية الفلسطينية، وإبراز الهوية الوطنية في المنابر والمحافل المحلية والعربية والدولية، رغم التحديات والتعقيدات والفيتو من قبل العديد من المؤسسات الثقافية والفنية المختصة في دول الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، التي تحول دون مشاركة الأفلام الفلسطينية الخالصة من حيث الإخراج والإنتاج والسيناريو، نتاج تدخل البعد السياسي بقوة لحجب السردية الفلسطينية، بعيدًا عن البعد الفني، الذي يفترض أن يكون الأساس في محاكاة وتقييم الأعمال الفنية الدرامية أو الوثائقية.

ولهذا تملي الضرورة على المخرجين الفلسطينيين غالبًا البحث عن مدخل لاختراق الأبواب الموصدة لدخول أعمالهم الفنية إلى المنصات العالمية ذات الصلة بحقل الفنون عمومًا، وعالم السينما تحديدًا. كما حصل مع فيلم "لا أرض أخرى" (No Other Land) الذي تمكن من المشاركة مع الأفلام العالمية الأخرى، وتم قبوله من أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة الأميركية، وحصل على جائزة الأوسكار الأولى في دورتها الـ97 كأفضل فيلم وثائقي طويل لعام 2025، والسبب يعود للإخراج المشترك بين الفنان الفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي يوفال إبراهام، إلى جانب المخرجين راشيل سيزر وحمدان بلال.

ويتناول الفيلم عملية التهجير القسري والتطهير العرقي الذي ترتكبه سلطات الاستعمار الإسرائيلية ضد أبناء الشعب الفلسطيني في منطقة مسافر يطا في محافظة الخليل، بذريعة إخلاء وتفريغ المنطقة من سكانها الأصليين لإقامة مناطق تدريب ورماية للقوات العسكرية الإسرائيلية، وهي أحد العناوين المكشوفة لنفي السكان من ديارهم، وتكرس الهدف الإسرائيلي، حيث يوثق الفيلم عمليات الهدم والتدمير للبيوت الفلسطينية وتهجير سكانها قسرًا.

وتسليط الضوء على منطقة مسافر يطا، هدف إلى إماطة اللثام عن معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة والمتواصلة الرازح تحت نير الاستعمار الإسرائيلي، ويعكس ما يعانيه الشعب عمومًا من تراجيديا سوداء في كافة محافظات الوطن والدولة الفلسطينية. وتمكن الفيلم من خلال علاقة الصداقة التي ربطت بين باسل الفلسطيني وإبراهام الإسرائيلي الذي لعب دور الصحفي، الكشف عن الفرق الشاسع بين معاناة الفلسطيني الذي يهدم بيته، ويتم طرده من أرض وطنه، وبين إبراهام الذي يعيش حياة مدنية بكل معاييرها، ومع ذلك يتضامن الصحفي الإسرائيلي مع صديقه الفلسطيني ويناصره في الدفاع عن حقه في الحياة، ويخلص إلى النتيجة الهامة، أنه "لا أرض أخرى" لباسل وأقرانه من الفلسطينيين غير وطنهم الأم فلسطين، وأن الأرض الفلسطينية تتسع للعيش المشترك بين الفلسطيني العربي والإسرائيلي اليهودي على أرضية الاتفاق السياسي بعيدًا عن الحروب والتطهير العرقي للفلسطينيين.

وأيًا كانت الملاحظات التي يمكن أن تؤخذ على الفيلم في بعض المقاطع، تمكن الفيلم كنموذج لعمليات التطهير العرقي المتشعبة والممتدة على مساحة الوطن الفلسطيني، والتي تتوسع وتتعمق في قطاع غزة والضفة الفلسطينية بالتلازم مع الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني كله إلى توصيل الرسالة المطلوبة، والهامة برفض التهجير القسري للشعب الفلسطيني، صاحب الأرض والتاريخ والموروث الحضاري، وهو رد مباشر على خطة التهجير وسياسات نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وغيرهم من أركان الائتلاف الحاكم.

ورغم أية سقطات جانب فيها الفيلم الصواب، إلا أن فوزه بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم، أثار ردود فعل كبيرة في الأوسط الإسرائيلية، وخاصة من وزير الثقافة الإسرائيلي، ميكي زوهار، الذي هاجم الفيلم على منصة "إكس" أمس الاثنين 3 آذار/مارس الحالي، نقلتها صحيفة "تايمز أوف إسرائيل".

باختصار حتى هذه المساحة الضيقة من كشف الفيلم عن بعض معاناة أبناء الشعب الفلسطيني، ودفاعهم عن حقهم في الحياة الحرة والكريمة، ورفضهم التطهير العرقي، وتضامن الصحفي الإسرائيلي المؤمن بالسلام والتعايش، والذي يقر بحق الفلسطيني في أرض وطنه، يعتبرها زوهار "تخريبًا لدولة إسرائيل"، ويتجاهل المسؤول الإسرائيلي جرائم الحرب والانتهاكات والإبادة الجماعية، ولا يرى غير صورة دولته الخارجة على القانون والموغلة في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي للفلسطينيين. لأنه لا يؤمن بخيار السلام والتعايش، وكونه مسكونًا بالتفوق العنصري واللاهوتي اليهودي الصهيوني على العربي الفلسطيني.

وأيًا كانت الملاحظات، فإن الفيلم نجح في إيصال الرسالة الأساس في دفاع الفلسطيني عن حقوقه الوطنية والسياسية والقانونية والثقافية، وهذا هو المهم.