حرب الإشاعات جزء لا يتجزأ من منظومة الحروب بين الأعداء، أو هي أحد الأسلحة الهامة في المواجهة بين القوى المتصارعة، ولها دور هام في التأثير السيكولوجي النفسي على الجبهات الداخلية عمومًا وفي أوساط الجيوش المتحاربة خصوصًا. والإشاعات تستخدم في زمني السلم والحرب، ولا تقتصر حدودها بين الدول والقوى، وإنما قد تستهدف المؤسسات والأحزاب والأفراد. وتعود جذورها إلى الحقب التاريخية القديمة، على سبيل المثال لا الحصر، دفع الفيلسوف اليوناني سقراط حياته نتاج إشاعة ملفقة، لا أساس لها من الصحة، عندما اتهم بإفساد الشباب وتحريضهم على الثورة. كما أن تحتمس الثالث لجأ إلى الإشاعة والخديعة في حربه لفتح يافا، بالتالي الإشاعة ليست وليدة الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي أنشأ فيها هتلر أول وزارة للدعاية بقيادة غوبلز، وبريطانيا أسست "قسمًا للدعاية برئاسة اللورد نور ثكليف، والرئيس الأميركي، وودرو ويلسون بإنشاء مكتب للاستعلامات برئاسة جورج سريل، لقناعة الدول بأهمية ومركزية سلاح الإشاعة والدعاية ضد خصومها وأعدائها، وبالتالي باتت أحد الأسلحة الهامة للدول كافة".

ولم تتورع دولة إسرائيل عن استخدام سلاح الإشاعة في حروبها منذ تأسيسها، وحتى قبل التأسيس عندما قامت العصابات الإرهابية الصهيونية باستخدام هذا السلاح ضد المواطنين الفلسطينيين البسطاء، وفي حروب إسرائيل عام 1956 و1967 عندما رفعت على دباباتها أعلام الدول العربية لإيهام الفلسطينيين والعرب بالتقدم في الأراضي الفلسطينية والعربية، فضلاً عن أن وسائل إعلامها المختلفة لجأت دومًا لهذا السلاح لتفتيت الجبهة الفلسطينية الداخلية، وتمزيق وحدة الدول والشعوب العربية.
وآخر تقليعة إسرائيلية هذه الأيام، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن خطته بالتهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة التي تراجع عنها أول أمس الجمعة في لقائه مع فضائية "فوكس نيوز" الأميركية، قيام طائراتها بإلقاء مناشير عليهم يوم الخميس 20 شباط/فبراير الحالي لترهيبهم وإشاعة الخوف بينهم بعظائم الأمور إن لم يخرجوا من ديارهم ووطنهم الأم، ومما جاء فيها "لم يبق إلا القليل، وانتهت اللعبة، ونحن هنا باقون إلى يوم القيامة". وبأن "خطة ترمب الإخبارية ستفرض عليكم التهجير القسري، شئتم أم أبيتم". وتضمنت مدخلاً استند إلى بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن الابتلاء والمصيبة وأجر الصابرين. وتوجه المنشور الإسرائيلي بنداء أخير لمن يريد أن نقدم له مساعدات، ودعا الجماهير الفلسطينية لأن يعيدوا حساباتهم قبل فوات الأوان، وقالوا في منشورهم، أن خريطة العالم لن تتغير إن اختفى كل أهل غزة عن الوجود، و" لن يشعر بكم أحد، ولن يسأل عنكم أحد. إيران لا تستطيع حماية نفسها حتى تحميكم". كما ذكر المنشور "لا أميركا ولا أوروبا تهتم بغزة بأي حال من الأحوال، حتى دولكم العربية، التي أصبحت الآن حليفة لنا، تزودنا بالأموال والأسلحة بينما ترسل إليكم الأكفان فقط". وغيرها من الأكاذيب والافتراءات والترهيب للمواطنين الفلسطينيين.

وتناست إسرائيل وأركان ائتلافها الحاكم أن الشعب الفلسطيني تعلم الدرس، وأخذ العبر من تجاربه المعاصرة في مواجهة التحديات الإسرائيلية، ولم يعد لقمة سائغة يمكن أن ترهبه منشوراتهم، وحملاتهم الدعائية المفضوحة والمكشوفة الأهداف الخبيثة والغبية في آن. وتجاهل الإسرائيليون الدرس الفلسطيني الماثل أمامهم بعودة أبنائه من أماكن نزوحهم من جنوب القطاع إلى شماله تأكيدًا على تمسكهم بترابهم الوطني، ورفضهم التهجير القسري مهما كانت التضحيات، ولم تثنيهم الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأميركية، رغم ارتقاء نحو 250 ألف إنسان بين شهيد وجريح، بالإضافة إلى تدمير نحو 90% من الوحدات السكنية والمباني عمومًا في مدن وقرى ومخيمات القطاع. ولن يكرروا تجربة النكبة الكبرى عام 1948، وهزيمة 1967. لأنهم تعلموا الدرس، واكتووا بمرارة ولعنة المخيمات والتطهير العرقي من وطنهم فلسطين المحتلة.
وبعكس ما تضمنه منشورهم، فإن العالم بقضه وقضيضه يقف على رجل واحدة دعمًا للشعب الفلسطيني، وإلى جانب عدالة قضيته وحقوقه السياسية والقانونية والإنسانية، وباتت السردية الفلسطينية هي الأعلى والسائدة في أوساط الرأي العام العالمي. كما أن الأشقاء العرب جميعهم وقفوا إلى جانبهم، ولم يكتفوا بإرسال الأكفان، كما ذكر بيانهم، وإنما تنادوا إلى قمة الأخوة السباعية المصغرة أول أمس الجمعة في الرياض، والقمة الطارئة في القاهرة في 4 آذار/مارس القادم لاتخاذ قرارات هامة لا تنحصر في إدخال المساعدات الإنسانية كافة بما فيها المواد الغذائية والدوائية والإيوائية، وإنما أعدت مصر الشقيقة بالتكامل مع القيادة الفلسطينية وحكومتها ومع الأشقاء العرب خطة لإعادة الإعمار، وعقد مؤتمر دولي للمانحين للإسهام في إعادة الإعمار، الذي ستلعب فيه دول الاتحاد الأوروبي ودول العالم المختلفة دورًا هامًا، والتحضير للقمة المرتقبة للمؤتمر الدولي الداعم لخطة استقلال دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، في يونيو القادم في نيويورك بقيادة المملكة السعودية وفرنسا، ومن ثم الذهاب للمؤتمر الدولي لتطبيق وتنفيذ الخيار المذكور، وانسحاب إسرائيل الكامل من أراضي دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية.

النتيجة المفترضة على الإسرائيليين ومن يقف خلفهم، أن يتعلموا الدرس، وأن يذعنوا لخيار السلام. لأن ترمب تراجع عن خطته، ولم تعد مطروحة، والتاريخ لن يرحم قادة إسرائيل في حال واصلوا التخندق في خنادق الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني، ولم يعد لديهم الكثير من الوقت لإعادة النظر في دوامة الحروب، التي سترتد عليهم بعظائم الأمور.