لن يضمن أحد في العالم ألا يتم تهجير أبناء شعبنا الفلسطيني في الأرض الفلسطينية في الـ48 والقدس والضفة الفلسطينية أيضًا، إلا أن الشعب الفلسطيني ذاته، بالاعتماد على عمقه العربي والدولي الإنساني الاستراتيجي، والخطر المرئي في هذه اللحظات التاريخية، آتٍ (بجريمة العصر) جريمة الحرب، والجريمة ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني، فأحجار دومينو (التهجير القسري) قد صفت بعناية ودقة، وما حملة الإبادة الصهيونية الدموية المدمرة منذ 7 أكتوبر 2023، إلا ضربة البداية التي سبقها، تمدد احتلالي استيطاني سرطاني، وقوانين القومية العنصرية، وجرائم المستوطنين الإرهابيين، وسرقة ممنهجة، ومبرمجة، لثروات الشعب الفلسطيني الطبيعية، وأموال خزينة دولة فلسطين العامة، بالتزامن مع ضربات هدامة لبنيان الاقتصاد الفلسطيني، فحكومة دولة إسرائيل (القوة القائمة بالاحتلال) لا تخفي أهدافها البعيدة المدى قبل القريبة، فهذا رئيس حكومتها المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بنيامين نتنياهو قد صرح قبل حوالي خمس سنوات، أنه سيجتهد لتحقيق معجزة بلوغ (إسرائيل) مئة عام، وهنا لا بد من ربط مواقف وتصريحات نتنياهو الممنهجة، وبين كلام (ثيودور هيرتزل) منظر الصهيونية، الذي قال أثناء زيارة فلسطين سنة 1902، وبعدما وجدها عامرة بأهلها وأصحابها الفلسطينيين: "لا بد من إخلاء السكان بكل الوسائل حتى لا يبقى أحد، لنتمكن من إثبات مقولتنا أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
لقد رأى الرئيس محمود عباس "أبو مازن" أبعاد مقولة هيرتزل، فكتب للتاريخ في كتابه الجديد الصادر هذا العام بعنوان (تاريخ ما أغفله التاريخ) في الصفحة 58: "هنا بدأ العمل على تهويد فلسطين والتخلص من سكانها الأصليين" وسلط الرئيس الضوء على محاولات طمس الحق الفلسطيني، بطمس قضية اللاجئين فكتب التالي: "الوضع الفلسطيني بعد النكبة سنة 1948 لم يعجب الغرب لأنهم لا يريدون لأحد من اللاجئين أن يكون قريبًا من الحدود ولا بد من العمل على توطينهم في أماكن بعيدة كل البعد عن الحدود مع إسرائيل حتى تعيش بأمن واستقرار وجاءت فكرة التوطين ونقل اللاجئين من قطاع غزة إلى عمق سيناء ومن الحدود السورية إلى الصحراء السورية الشرقية. وفي عام 1955 تسرب الخبر إلى صفوف اللاجئين في قطاع غزة وانفجرت المظاهرات، وقادها كوكبة من الشخصيات الوطنية على رأسهم محمد يوسف النجار والشاعر الكبير معين بسيسو وفتحي البلعاوي، واستطاعت هذه الكوكبة من القادة إفشال المشروع من أساسه".
إذن فمشاريع التهجير ليست وليدة اللحظة، أو ردة الفعل، فهذه مخططات جاهزة بانتظار اللحظات المناسبة لإطلاقها وتنفيذها، فتصطنع منظومة الاحتلال (إسرائيل) الذرائع بما يناسبها لتحقيق أهدافها، إن لم تكن قائمة، وتتخذ فعلاً ما، من جهة فلسطينية، قصيرة النظر معدومة الرؤية السليمة للمصالح العليا للشعب الفلسطيني، كعملية 7 أكتوبر 2023 لإطلاق الخطط ذات الأهداف البعيدة المدى، وابتدائها بحملة إبادة جماعية وتدميرية، مركزة على أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين منذ سنة 1948 حوالي (70%)، فنتنياهو أدرك أن مشروع هيرتزل لم يتحقق كاملاً، وأن تحقيق هدف عمر المئة عام، لمملكته اليهودية - كما وصفها - يتطلب منع قيام دولة فلسطين، على أرض فلسطين التاريخية بأي ثمن، وبكل الوسائل، حتى لو تطلب الأمر التهجير القسري، لملايين المواطنين الفلسطينيين الباقين على أرض وطنهم فلسطين، ولأنه يعتقد أنه في مأمن من العقاب والمحاسبة، وفرته الإدارات الأميركية المتعاقبة، نراه يتوغل بحملة الإبادة بالقوة العسكرية، طاحنًا القوانين والشرائع والمواثيق الدولية، بجنازير دبابات جيشه الأميركية، وبأم القنابل الأميركية أيضًا، حتى يصير حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة دخانًا وغبارًا يتسللان من بين ركام بيوت المخيمات في غزة والضفة الفلسطينية، كما يحدث تنفيذًا لخطة الإبادة، أما الباقون على قيد الحياة، فيدفعون تحت تهديد (الإبادة) إلى خارج حدود فلسطين التاريخية الطبيعية، وبذلك – وفقًا لهيرتزل ووريثه نتنياهو – تستكمل (جريمة العصر) في ظل فرصة غير مسبوقة، وفرتها الدولة الاستعمارية العميقة في الولايات المتحدة الأميركية، التي أنشأت (إسرائيل)، وحرصت على وضع تنفيذ إعلان بلفور كشرط، أو مهمة رئيسية، في صك الانتداب على فلسطين الممنوح من عصبة الأمم المتحدة لبريطانيا، علمًا أن الولايات المتحدة لم تكن عضوًا فيها. ذلك أن إعلان بلفور، أميركي المضمون، بريطاني الشكل والإخراج، وفي ظل محاولات جدية لإلغاء دور الشرعية الدولية، والقانون الدولي، لتحقيق العدالة للشعوب المظلومة، وفرض سلطة الولايات المتحدة الأميركية على العالم، لتكون الآمر الناهي في أي قضية، ومنها تحديدًا الحق الفلسطيني (القضية الفلسطينية) وتجييرها لصالح (إسرائيلييها).
لكن ما الذي يعتمد عليه نتنياهو اليوم؟ فأضغاث أحلام هيرتزل برؤية فلسطين أرضًا بلا شعب، لم تتحقق، رغم بلوغ مشروعه للاحتلال والاستيطان الصهيوني العنصري الشيخوخة (123 سنة)، ورغم مجازر وجرائم ومذابح المنظمات اليهودية الصهيونية المسلحة، والتهجير والتدمير والإرهاب الذي اتخذته (دولة إسرائيل) منهجًا، وعمليات التهويد، فكل محاولات تذويب وصهر الشخصية الوطنية الفلسطينية العربية لفلسطينيي الـ 1948 فشلت، واجتثاث جذور الشعب الفلسطيني التاريخية اصطدمت بانتماء وطني راسخ، تجسد بإجبار إسرائيل على الإقرار والاعتراف بالشعب الفلسطيني، وبمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني كما نصت الرسائل المتبادلة في اتفاقية أوسلو، ونعتقد أن جريمة حكومة الصهيونية الدينية برئاسة نتنياهو، قد فاقت جريمة هيرتزل بأضعاف مضاعفة، ذلك أنه صاحب القرار الأول بإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني، الذي اعترفت حكومات دولته بكيانه التاريخي والسياسي وتعترف دول العالم، بحقه في قيام وتجسيد دولته المستقلة على أرض وطنه فلسطين التي ما كانت لتكون الأرض المقدسة بالنسبة للمؤمنين في العالم، لو لم يكن شعبها قد جسد المعاني الإنسانية الحضارية فعلاً، فالزمن لا يمكن لأحد إرجاعه ولو بمقدار ثانية، ففلسطين الأرض والشعب حقيقة سرمدية أما مشاريع الرأسمالية العنصرية الاستعمارية، فلن تقوم لها قائمة، في زمن إيمان الشعوب والأمم بالعدل والسلام. وما دام الشعب الفلسطيني يعلم تاريخ كل ما أغفله التاريخ.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها