إن بداية العبث في تاريخ فلسطين قد بدأ من الايديولوجية التي أخذت تسوق لفلسطين على أنها "أرض بلا شعب.. لشعب بلا أرض" ومن ثم تلاها وعد بلفور واستكمال تهويد فلسطين وشطب الهوية الفلسطينية والقضاء على الشواهد التاريخية والحضارة العربية بكل مكنوناتها التراثية والثقافية لصالح مزاعم المؤسسة الصهيونية المستندة على ثلاثية الأساطير المزيفة وهي: "أرض الميعاد" و "شعب الله المختار" و"الحق التاريخي لليهود في القدس وفلسطين".

منذ النكبة عام 1948 لم تتوقف المؤسسة الصهيونية عن مساعيها بالهجوم الرامي إلى تهويد وعبرنة المكان والزمان، وذلك بممارسة إجراءات مجحفة بحق الفلسطينيين، من اقتراف المجازر الجماعية وتهجير أهل الهوية والحق والوجود، وبهذا اغتصبوا الجغرافيا وباشروا بمسح التاريخ لكي يقيموا دولة للكيان الصهيوني عام 1948، فالقادة الصهاينة الأوائل يدركون أن استمرارية دولتهم تعتمد على الإلغاء الشامل للهوية العربية الفلسطينية واستبدالها برواية وهوية وسيادة صهيونية.

تلك الدولة المزيفة تدرك أنها وجدت على أنقاض وطن وشعب جذوره ضاربة عميقاً في الأرض والتاريخ والتراث، ولذلك وجب شطب تلك الحقائق لتسود الهوية الصهيونية العبرانية بدلاً من الفلسطينية العربية، كل ما حدث وما يحدث الآن في غزة من ارتكاب للجرائم وإبادة جماعية لشعب أعزل هو استكمال لسياستهم الأولى منذ نكبة عام 1948 والمعروفة "بالتطهير العرقي" والذي بموجبه يتم القضاء على العرق الفلسطيني بتطهير غزة من مواطنيها الفلسطينيين وتهجيرهم من بيوتهم نحو مصر.

يذكر المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في مقدمة كتابه التطهير العرقي في فلسطين بأن: "الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية سنة1948 هي في نظر الإسرائيليين "حرب الاستقلال" بينما بالنسبة إلى الفلسطينيين ستظل إلى الأبد "النكبة" فبالإضافة إلى نشوء دولة إسرائيل أدت الحرب إلى واحد من أكبر التهجيرات القسرية في التاريخ الحديث إذ طرد نحو مليون نسمة من بيوتهم بقوة السلاح، وارتكبت مجازر بحق المدنيين ودمرت مئات من القرى الفلسطينية عمدًا، ومع أن الحقيقة بشأن التهجير الجماعي الهائل شُوِهَت وجرى طمسها بصورة منهجية فإنه لو كان حدث في القرن الحادي والعشرين لكان سمي تطهيرًا عرقيًا".

وتعقيباً على ذلك فإن ما يحدث في قطاع غزة من تدمير للجغرافيا بكل محتوياتها وتهجير قسري للبشرية وابادة جماعية بحق الفلسطينيين يرمي إلى القول بأنها عملية تطهير عرقي ممنهجة، تقوم على قاعدة إلغاء الاخر وشطبه.

ومن جانب آخر وفيما يتعلق بالحرب على الهوية والتراث الثقافي الفلسطيني كما يبدو جلياً من هجوم واستهداف مكثف للشواهد التاريخية ذات السيادة الكنعانية العربية في غزة، وبالرجوع إلى سياسة "التهويد والعبرنة" للمواقع التي تم تطهيرها عرقيًا من الفلسطينيين، تلك السياسة التي انتهجتها المؤسسة الصهيونية ليأتي كل ذلك في سياق استكمال بناء الوطن القومي اليهودي للأمة اليهودية، وهذا ما يؤكده الباحث عبد الرحيم الشيخ في سياق التسميات الصهيونية للمواقع العربية فيقول: "ما قامت به الحركة الصهيونية، وما واصلت إسرائيل القيام به من تجريد المكان من سمته العربية بطرد أصحاب البلد الأصليين من الفلسطينيين، وتغيير أسماء القرى والمدن العربية بإطلاق الأسماء العبرية عليها، وملئها باليهود الصهيونيين، وذلك في إطار فكرة إعادة بعث الوطن القومي اليهودي والأمة اليهودية في آن واحد".

إن السياسة الصهيونية لا تقف على التدمير والتهجير واقصاء الآخر وطمس هوية شعب بأكمله، بل إلى تأسيس وطن يهودي بابتكار رابط عرقي تاريخي زائف لليهود في فلسطين، وعمدت الحركة الصهيونية جاهدة لاختلاق تاريخ كاذب ورواية مزيفة لتضمن بقائهم الأبدي على الأرض.

تبدو مساعي الحرب الصهيونية على الهوية في غزة واضحة، وعلى مرأى العالم من قبل حكومة اليمين الصهيوني المتطرف برئاسة "نتنياهو" من تجويع وتهجير وإبادة جماعية لشعب أعزل وتدمير للشواهد التاريخية التي تؤكد أحقية الشعب الفلسطيني بملكية الأرض وسيادته عليها.

ولعل أبرز التصريحات التي صدرت عن تلك الحكومة عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية في هذه الحرب هو تصريح وزير التراث الصهيوني "عميحاي الياهو" بإلقاء قنبلة ذرية على قطاع غزة، الأمر الذي يؤكد دموية هذه الحكومة واصرارها على مسح الوجود الفلسطيني وطمس هويته، ولم يكتفي هذا الوزير بهذا التصريح فحسب بل تبعته تصريحات مماثلة لاحقاً، فقد دعا مؤخرًا لإيجاد طرق أكثر إيلامًا من الموت للفلسطينيين.

وبالرجوع إلى سياسة نتنياهو تجاه الحرب على الهوية الفلسطينية وسرقة التراث الفلسطيني وتهويده، بل وإلصاقه بالشعب اليهودي علينا التعمق في خطاب نتنياهو في مؤتمر هرتسيليا للأمن القومي العاشر (31/1 /2010) عندما تحدث قائلاً: "اليوم لن أتحدث عن فك الارتباط، وإنما عن الارتباط بتراثنا وبالصهيونية وبماضينا وعن مستقبلنا هنا في أرض أجدادنا التي هي أرض أبنائنا وأحفادنا، وإذا أردنا أن نتحدث عن شيء أكثر أساسية فإنني سأتحدث عن ثقافة قيم الهوية والتراث، ثقافة معرفة جذور شعبنا، ثقافة تعميق ارتباطنا الواحد مع الآخر في هذا المكان، حيث لدينا حوالي 30 ألف معلم تاريخي يهودي يجب أن نحييها من جديد، فإن شعبًا لا يتذكر ماضيه يبقى حاضره ومستقبله ضبابيًا".

إن تداعيات هذا الخطاب تشير إلى إجهاز نتنياهو بحرب مفتوحة على الأرض والتراث والتاريخ لاختراع رواية صهيونية مزيفة تمحو كل ما هو عربي فلسطيني.

أما نتنياهو في حكومة 2022 وبعد أقل من 24 ساعة على إعلان تمكنه من تشكيل حكومته السادسة بالشراكة مع تيار الصهيونية الدينية صاحب التوجهات الفاشية والحردييين، بدأت تتكشف ملامح الاتفاقيات الائتلافية التي شُكلت الحكومة الجديدة على أساسها، وتشمل إجراءات لتعزيز سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الضفة الغربية المحتلة وتنفيذ حكم الإعدام بحق الفلسطينيين من منفذي العمليات ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه، فأخذ بالتعهد أمام سموتريتش "بالمزيد من ضم ومصادرة أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، وكذلك تطبيق قانون إعدام الفلسطينيين".

وبالتصعيد الأخير لحكومة نتنياهو بعد 7 أكتوبر في غزة يأتي هذا التصعيد اليميني المتطرف مؤكدًا الحرب على الهوية ليخدم أجندة يمينية متطرفة، ويركز على الإطاحة بالوجود الفلسطيني وشطبٍ للسيادة العربية الفلسطينية لتقوم السيادة الصهيونية المزيفة على أنقاض شعب كامل، وهذا كله ضمن سلسلة انتهاكات وتجاوزات للمواثيق والقوانين الدولية.