كنت أريد أن أكتب منذ زمن حول هذا الموضوع الذي يقذف القامات والرموز الوطنية والنضالية وينالهم السوء، من بعض المتهكمين، حتى برزت قضية أبو شادي الطوس الأسير المحرر الذي أمضى في سجن الاحتلال أربعين عامًا. ذلك أن الطوس عبر عن فكره لأحد المحطات الفضائية حول موضوع الثمن الذي تم دفعه للإفراج عن الأسرى، ونسيت هذه الإذعات أن الرجل قد أمضى عمره في السجون من أجل قضية فلسطين. بل وذهب البعض أكثر من ذلك ليقول ما كان على حماس إدراج اسمه ضمن الأسرى للإفراج عنهم. هنا فقط أنا أتوقف عند ضحالة الفكر الذي وصلنا إليه، الاختلاف ممنوع والرأي الآخر مرفوض. هنا أود أن أقول إذا كان صاحب فكرة السابع من أكتوبر قائد حماس فإن الذي دفع الثمن الباهظ هو الشعب الفلسطيني كله، حتى الذين هم في الضفة الغربية بعيدين عن أجواء المعركة. هكذا يجب أن تكون الثقافة بعنوان الوطن للجميع. تصيبني الدهشة عندما أجد أن العالم يعتبر رموزنا بشخصياتهم الاعتبارية الوطنية رمزًا للنضال في العالم ويأتي البعض للنيل منهم والانتقاص من إرثهم النضالي. هناك أقيمت في عواصم العالم تماثيل ترمز للنضال والحركة لياسر عرفات، وتجد نفوسًا وضيعة تريد النيل من هذه القامة.

القامات والرموز الوطنية سواء كانوا شهداء، أو أسرى، أو أناشيد وطنية، أو علم وسارية، هي زاد الشعوب وقوتها التي تعتز بها وتفتخر، هم الهالة المقدسة التي أبقت للشعب كرامة وحصن منيع يتحدثون عنه لمئات السنين، هم الخالدون، هم من أنار للشعوب المقهورة دربها وطريقها نحو الحرية. هؤلاء من قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل حرية الشعب والوطن.

التعرض لهم بسبب الاختلاف أمر أكثر من معيب، بل ويصل إلى الخيانة العظمى. لا هالات مقدسة إلا من علمنا ديننا الحنيف إنه مقدس، ولكن هؤلاء الذين قدموا أنفسهم وما يملكون أثمانًا لعقيدتهم النضالية، يستحقون منا التقدير والاحترام. يستحقون منا أن لا نخذلهم، يستحقون أن نحافظ على وجدانهم وكرامتهم.

قامات طويلة بما قدموه من عطاء لا ينضب.  هم الذين أضاؤوا شعلة الحرية بنضالهم. أبو شادي الطوس قضى أربعين عامًا في المعتقلات الإسرائيلية، فكر، ونضال، وإيمان أخذ منه الأسر زهرة شبابه، وأخذ منه الكثير من أحبابه دون أن يراهم، ولد بعض أبنائه وهو في المعتقلات، من سجن إلى آخر ينقله السجان ويلقي به من محطة إلى أخرى، تكلم برؤيته وبشجاعة وإيمان وصدق عن معركة طوفان الأقصى، وهذا رأيه والذي يجب أن يُحترم. إذا كنا نختلف كفلسطينيين كانت السجون مرجعية الرأي في العمل النضالي. التطاول على قامة بهذا الحجم، هو لا يقلل من قيمته بل تقل من قدر هؤلاء الذين يتطاولون على القامات النضالية. الشيء الذي يعزينا في هذا الموقف أن من يتطاولون على الرموز وأحجامهم دون المستوى على المجتمع الفلسطيني أن يضع حدًا لمثل هذه المهاترات.

لقد سمعنا الكثير من التطاول على الرموز مِمن ليسوا أهلاً للحديث النضالي والثقافي والاجتماعي أو السياسي. ولا ضير لقد تطاول الكفار على الأنبياء والرسل أنظر إلى قول الله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين". ألم يتم التطاول على سيد الخلق محمد، ألم يتم التطاول على النبي عيسى. ألم يكذبوهم، ألم يتم أذيتهم، شرفاء الأمة هم أصحاب رسالة، الثمن كان عاليًا قد دفعوه مقابل إيمانهم بعدالة قضيتهم. تم التطاول على الشهيد ياسر عرفات، وعلى قادة آخرين ونعتوا بأقذع الأوصاف، وكان الناعت قد جاء من السماء. 

هنا نرفع القبعات عاليًا لرموزنا وقادتنا الفلسطينيين من كل الألوان والأشكال والفصائل، عندما يتكلمون نسمع لهم باحترام ومن قضى نحبه نترحم عليه بإجلال وإكرام. متى ترتقون؟ متى تخرجون من القاع؟.

ازدحم القاع وأصبح المكان خانقًا، لا يقبل بعد ذلك عذرًا. حملات التشويه التي تصل إلى الرموز ليست من الوطنية في شيء، ولست ممن يقدس أو يحرم أو يحلل، ولكني أرى في الرموز والقامات قدسية، يستحقون التبجيل، وفي هذا فاليتنافس المتنافسون.

إن شعوب العالم تصل احترامها لمثل هؤلاء القامات والرموز إلى درجة التقديس، فقط باتوا يشاهدون تلك الهالات النضالية، ويتباركون منها. في كوبا، في فيتنام، وغيرهم من الشعوب التي ناضلت وأفرج عن أسراهم، اذهبوا لتروا بأم أعينكم كيف يتحدثون معهم، كيف يمرون عنهم، كيف يسلمون عليهم؟ بكل وقار، أدب، واحترام.

لا يوجد مثلنا نحن هنا، لا نرى أبعد من أنوفنا لنهاجم من هم أطول منا قامة، وأوفى منا لهذا الوطن. أيها السادة يا أصحاب وطن الأنبياء، يا أصحاب وطن الشهداء، يا أصحاب وطن الضائعين تكاملوا، تحابوا، انتصروا لرموزكم، لقامات وطنكم، حتى تبقى شعلة أضاؤوا شعلتها تنير المكان، ودون ذلك ستفقد الشعلة بريقها.