الناس دون أدنى شك أصناف وأشكال وألوان وأعماق في المعرفة والفكر. قد يتفق الفقهاء على مسألة وقد يختلف أئمة على مسالة، هذا حقيقي وواقع ولا يحتاج إلى أمثلة وتوضيحات. الذي يجمع الناس بعضهم مع بعض هي وحدة الهدف ووحدة المصير واللغة والدين، والذي يفرقهم هو اختلاف الأشكال والألوان والأهداف.
العرب في الجاهلية كل قبيلة كانت تشكل مجتمعًا قائمًا بذاته، تجمعهم وحدة الرأي والهدف والمصير ويسوسهم مشايخ القبيلة وأصحاب الرأي فيها. ومع تطور المجتمع العربي في الجزيرة العربية وإنشاء الدولة بدل القبيلة ومن ثم اندماج الحضارات، وظهور المدارس والفقهاء والأئمة اجتمع الناس كلهم في ظل الدولة، وكان اختلاف الرأي فيها بالحجة والبرهان رحمة للناس ووسيلة للتخفيف عنهم، ولكنهم جميعًا توحدوا تحت راية الدولة.
المجتمع العربي في ظل الدولة منذ نشأتها في الجزيرة العربية كانت تقوم على وحدة الأمة، وطالما كان الحديث في بناء المجتمع على أساس وحدتها، وكل الأدبيات والتعاليم التي وضعت أركانها الشرائع والقوانين التي تهتم في بناء مجتمع أساسه الوحدة، فكان قول الله تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا". وحذر من الفتنة ومروجيها.
بعض الاختلاف في الرأي يعتبر أمرًا هامًا للمجتمع ، لأن الخلاف يوصل القضايا المتداولة إلى أفضل مستوى من الرضى والقبول. أما في المسائل ذات الثوابت المصيرية فلا خلاف والأمر مبتوت فيه، والخروج عنه يعرض المجتمع للتنافر والتناحر والتلاشي يقول الله تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا". إذن وحدة الشعب الفلسطيني التي تعتبر أولوية لا مجال للقول فيها. بل إن هناك الاجماع على كلمة واحدة من الأساسيات وأعطيت الأولوية للحفاظ على كلمة الأمة ووحدتها.
هنا لا أريد أن أتطرق إلى ماذا تؤول الخلافات في المجتمع؟ ولدينا من الأمثلة ما تكيفنا وتقض مضاجعنا وتؤرق ليلنا. وأكثر الأمور تعقيدًا هي التي يكثر الجدل حولها، وما أكثر الجدل عندنا. تشخيص الحالة الفلسطينية أمر ضروري من ذوي الاختصاص والاهتمام "وأمركم شورى بينكم" لأن القضايا الجدلية تعمل على تفتيت جهود الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية برمتها، لا خيار في الأمور المقضية. ففي حالة الالتباس تم توجيه الموضوع ورُد إلى ذوي الاختصاص لاستنباط المفاهيم والمعاني لقوله تعالى: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ".
الاقتباس لماذا هو مهم لأن الحالة الجدلية القائمة أدت إلى التصادم في المخيمات شمال الضفة الغربية، فسرها البعض على أنها صراع بين فصائل في إطار الشعب الفلسطيني. هذا التفسير هو من السذاجة لأنه يلغي الصفة التي قامت عليها السلطة الفلسطينية. فالسلطة ليست فصيل فلسطيني وإن كان من مكوناتها بعض فصائل العمل الوطني والإسلامي، السلطة الفلسطينية مشروع وطني فلسطيني جامع كبير وحلم الشعب الفلسطيني يقوم على الشرعية الوطنية ونواة مكونات الدولة الفلسطينية ووحدة الأمن والسلاح فيها، لإدارة الديموغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بموجب اتفاق دولي، ومناط بها وفقًا لذلك بناء المجتمع المدني يقود في مكوناته إلى دولة فلسطينية وعاصمتها القدس.
غياب هذه الصورة عن الكثيرين من الداخل والخارج، جعل الموضوع في حالة جدلية تشير إلى الشعب الفلسطيني على أنه صراع بين فتح وحماس والجهاد الإسلامي. غياب الصورة عن الكثيرين محليًا وإقليميًا، إن السلطة الفلسطينية هي سلطة الشعب الفلسطيني واحد مكوناتها العمل الوطني والاجتماعي الرئيس فيها مع باقي فصائل العمل الوطني الإسلامي والمسيحي، وواحد من مكوناتها "فتح وحماس" والفصائل الفلسطينية.
رجال الأمن وسلاحهم الفلسطيني التابع للسلطة الفلسطينية، هو لحفظ الأمن والنظام لكل مكونات المجتمع سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. هو لإدارة المرور، وحفظ الأمن العام، وحفظ أمن المؤسسات المدنية والاقتصادية والاجتماعية، هو أمن لفض النزاعات الاجتماعية. لا يمكن خلط المفاهيم فأمن وسلاح السلطة الفلسطينية ليس سلاح تنظيم أو مقاوم، هذا السلاح تلك هي أهدافه التي تم ذكرها والتطرق إليها، وإذا خرجت عنها فإنها تتعرض إلى المواجهة مع الجيش الإسرائيلي وهذا لا يتساوى مع قدراته الذاتية المحدودة جدًا. ولقد سبق أن شارك الأمن والسلاح الفلسطيني في هبة عام 2000 وتم القضاء على أكثر من 80% من مقدراته البشرية والمادية ودمرت جميع مقراته. الناس في وهم، المعرفة أشكال وألوان وكل يفسر حسب تفكيره.
المقاومة الفلسطينية مرة أخرى ليست اختراع حديث، المقاومة الفلسطينية انطلقت منذ عرفت فلسطين الاحتلال البريطاني والإسرائيلي. وكانت المقاومة الفلسطينية تخوض النضال في إطار العمل السري وعندما تخرج إلى العلن تفقد لونها وشكلها وعملها على الأرض. ظاهرة الفرق المسلحة تحت مسمى المقاومة هو لون جديد، لم تعهده المقاومة وعلانيته تفقده مهامه التي قام من أجلها وذلك لسبب مهم أنه فقد فرصة التحرك السري بسبب انكشافه وسهولة ملاحقته من العدو، من هو صاحب هذه العبقرية في المقاومة؟ الحقيقة أنه لا توجد مثل هذه الفلسفة.
لقد توسعت أعمال المقاومة في شمال الضفة مع إعلان إسرائيل وتوجهاتها بحسم ضم الضفة الغربية، والقيام بتهجير أعداد من سكانها، ورافق ذلك إلغاء عمل وكالة الغوث الدولية "الأونروا" وبدء العمل العسكري انطلاقًا من تلك المخيمات، مما سبب تعرض المخيمات إلى دائرة الانتقام من الجيش الإسرائيلي في هدم البنية التحتية فيها وخلق بيئة طاردة للحياة، ما سهل هدف الاحتلال في التهجير. وهنا تظهر الأسئلة الكبيرة التي تحتاج إلى تفسير كيف تزامن البدء في الخطة الإسرائيلية ووقف خدمات الأونروا وتشكيل ما سمي بكتائب المقاومة؟.
فلسطين بكافة مكوناتها، تتعرض إلى تحديات كبيرة، على الصعيد الداخلي عدى عن تلك التي ظهرت في مخيمات شمال الضفة الغربية، والانقسام الذي أدارته حركة حماس في غزة، وعزز هذا الانقسام الاحتلال الإسرائيلي، وما تبع ذلك من الإبادة الجماعية وتدمير شبه كامل لقطاع غزة، لقد أصبحنا نواجه تهديدًا للأمن القومي الفلسطيني، وهو تهديد الوجود الفلسطيني الذي يتعرض إلى تحديات اقتصادية أهمها القرصنة الإسرائيلية لأموال المقاصة، ومحاولة تدمير السلطة الفلسطينية، وضم الضفة الغربية وقطاع غزة، وإعلان إسرائيل منع إقامة دولة فلسطينية. وهناك تحديات في قضايا الأسرى ومواجهة الاستيطان الذي يتضاعف يومًا بعد يوم بمختلف أشكاله وألوانه، وهناك تحديات البناء والتطوير والتشغيل، والبطالة. هذا جزء من التحديات المفروضة عليه كمجتمع فلسطيني ويواجه الاحتلال. يبقى السؤال الجوهري هذا التمرد على السلطة الفلسطينية من وراءه؟ ولمصلحة من في ظل المحاولات الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية؟. الائتلاف والاختلاف أمران كبيران حدودهما الأفق البعيد، وشتان ما بين هذا وذاك.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها