قبل ستين عامًا مثل هذه الأيام، كانت خلية صغيرة من شباب فلسطينيين تجتمع بالسر بعيدًا عن أعين أجهزة المخابرات العربية وغير العربية تناقش الموعد المناسب للبدء بالثورة المسلحة من أجل تحرير فلسطين وعودة اللاجئين.

جميع من كانوا في هذه الخلية كانوا صبية أو في شبابهم المبكر عندما حصلت نكبة عام 1948، ولا تزال ذاكرتهم حية بخصوص صور العصابات الصهيونية التي شردتهم مع آبائهم وأمهاتهم وأخواتهم وإخوانهم، وكانوا قد عانوا الأمرين، وعاشوا قسوة النكبة. وبشكل مبكر اكتشف هؤلاء أن أنظمة الشعارات القومجية إما أنها لا تستطيع أو لا تريد تحرير فلسطين، ونتيجة لذلك كانت مهمة هذه الأنظمة هي استيعاب الشباب الفلسطيني ومنعهم من القيام بأي مبادرة بعيدًا عن أعينهم وقرارهم.

الخلية التي نتحدث عنها، هي ذاتها التي أسست حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في نهاية خمسينيات القرن العشرين، أعضاء هذه الخلية استلهموا أفكارهم من حركات التحرر الوطني التي كانت نشطة آنذاك، وتحديدًا من جبهة التحرير الجزائرية، وأهم ما أدركوه من تجربة حركات التحرر، هي فكرة الاعتماد على النفس، وأن تكون إرادتهم حرة وقرارهم السياسي بيدهم. والأمر الأهم لما أدركوه، أنه إذا كان الهدف هو أن تقرر الشعوب مصيرها بنفسها. فكيف يمكن حصول ذلك وقرارهم بيد غيرهم؟ أو أنهم لا يتحكمون بقرارهم، وأنهم ليسوا أسياد أنفسهم، لذلك تحرك مؤسسو فتح بسرية تامة، وأخذوا قرار الانطلاق بالثورة بأنفسهم بالاعتماد على النفس، وبمحض إرادتهم دون تدخل من أحد.

الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1965، كانت فلسطينية وقرارها وطنيًا فلسطينيًا، وأهدافها محصورة بتحرير فلسطين، لذلك لم تحمل أسماء فصائل تلك الثورة سوى اسم فلسطين، ولا تقول انها جزء من أي شيء آخر خارج الحالة الوطنية الفلسطينية، وكانت على شاكلة حركات التحرر الوطني العالمية في تلك المرحلة. هي تبغي الحرية والاستقلال.

باختصار، هذه الثورة كانت بنت مرحلتها، ويمكن تلخيص تلك المرحلة بأن هناك شعوبا تخضع للاستعمار تثور من أجل أن تتحرر وتحرر أوطانها، ولا هدف آخر لها سوى هذا الهدف، وهكذا هي الثورة الفلسطينية ولا تزال ببعدها الوطني والذي تمثله "فتح".

وبما يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية، صحيح أنها تأسست بقرار القمة العربية. لكن "فتح" وبعد هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران/يونيو 1967، نجحت في إنهاء مرحلة الوصاية على قرار المنظمة، وأصبحت منذ العام 1968 تضم جميع الفصائل، وميثاقها أصبح يحمل اسم الميثاق الوطني بدل الميثاق القومي، بعد أن أزاحت منه المواد التي تُخضع المنظمة للأنظمة العربية. وكانت هناك فصائل تتبع لبعض الأنظمة العربية، لكن لم يسمح لها بالتحكم بقرار المنظمة.

لقد اكتسبت المنظمة صفتها، بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بعد كفاح طويل وتضحيات وشهداء وجرحى وأسرى، ففي عام 1974 اعترفت الدول العربية في قمة الرباط بالمنظمة ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، وفي عام نفسه اعترفت هيئة الأمم المتحدة، والدول الأفريقية والإسلامية والدول الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي ودول مثل الصين الشعبية، الهند، البرازيل، وغيرها من الدول بمنظمة التحرير ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى أن السياسة الفلسطينية الذكية والمنسجمة مع قرارات الشرعية الدولية قادت في نهاية الأمر إلى اعتراف دول أوروبا الغربية، والولايات المتحدة الأميركية، وفي إطار أوسلو اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها ممثلة الشعب الفلسطيني.

لقد كانت الأمور تدار بشكل وطني ومن أجل أهداف وطنية، وتعمل على مراكمة المكتسبات والانجازات. ولم تكن "فتح" أو منظمة التحرير الفلسطينية جزءًا من أي أجندة غير الأجندة الوطنية.

ماذا عن مقاومة الإسلام السياسي، حماس والجهاد الإسلامي، الأولى، أي حماس،  قالت منذ البداية أنها جزء من التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، لذلك جاء اسمها بما لا يشير إلى أنها وطنية فلسطينية، فجاء اسمها حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ولم يخف هذا التنظيم أنه يتحرك ضمن أجندة وإستراتيجية الإخوان، وكان حلفاؤه الموثوقون من تيارات الإسلام السياسي السني والشيعي.

أما الجهاد فمنذ البداية ربطت نفسها بنظام المرشد الإيراني في طهران مقابل التمويل، باختصار كان الفصيلان، حماس والجهاد، جزءًا من حلف إقليمي وجزءًا من حالة لا تمت للوطنية الفلسطينية بصلة، وإنما كانت نقيضًا وبديلاً لها.

ارتباط هذه الفصائل بالمحاور كلف الشعب الفلسطيني تضحيات لم يكن لها أي لزوم، وقوض الكثير من مكتسبات الشعب الفلسطيني الوطنية.

ولأن حماس كانت كذلك، وكانت جزءًا من محور أو حتى محاور، أدخلتنا بمعارك وبمغامرات، آخرها مغامرة لها كانت السابع من أكتوبر العام الماضي غير المحسوبة، وهي المغامر التي أدت إلى دمار قطاع غزة، وحولته إلى منطقة غير قابلة للحياة، وتحاول هذه الفصائل جر الضفة إلى المصير المؤلم ذاته، وقد تنتهي ليس بالدمار فقط بل للتأجير أيضًا.

الفارق بين مقاومة الثورة الفلسطينية ومقاومة الإسلام السياسي، أن الأولى لا وجود في قاموسها سوى الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية، وضمان صموده على أرضه، أما مقاومة الإسلام السياسي فهي ضمن مشروع إسلاموي كبير تمثل فيه فلسطين محورًا صغيرًا، وقضيتها ورقة للاستخدام، ولا يهم هذه الفصائل لا الدم الفلسطيني ولا التضحيات ولا صمود من عدم صمود، المهم إذا كانت معاركها تضيف لرصيد الإسلام السياسي أو لا تضيف.

ربما آن الأوان للشعب الفلسطيني أن يدرك مصلحته جيدًا وألا ينجر ويضحي خدمة لأجندات خارجية. عليه أن يقول: كفى للعبث بدمه ومقدراته وقضيته الوطنية.