منذ بداية حرب الإبادة الجماعية تهرب منا الكلمات، واليوم لا أعرف كيف أشرح لكم حجم الكارثة الرهيبة. لكن الوجوه الجوعى تعبّر عن ذلك، إذ تمارس إسرائيل حرباً شعواء ضد الفلسطينيين، وتصدر رسائل مفادها أنه لا توجد ثقافة فلسطينية، ولا تاريخ فلسطيني، ولا شعب فلسطيني، وهذا ليس كذباً أو تجريداً من الإنسانية فقط، بل هي محاولة امتلاك سردية مغايرة للحقيقة، لكن هذا هو بيت القصيد.
عندما يزعمُ مسؤولون إسرائيليون أن "أمّة فلسطينية ما" ليست لديها ثقافة ولا تاريخ، فهذه طريقة أخرى للقول إنه لا يوجد شيء إنساني فيها، ولا شيء من الحضارة، وبالتالي ليس للشعب الفلسطيني الحق في الوجود، وعليه، فإن الجيش الإسرائيلي يمتلك الحق بمنح نفسه مبرراً لحرب الإبادة.
إذا كانت هذه هي السردية التي تحاول إسرائيل غرسها في الوعي، فكيف سنصدق دولاً أعضاءً مقرِّرة دولياً، تشارك في طمس الحقيقة وتشكك في معنى القانون الدولي وتعمل على تجريد الضحايا الفلسطينيين من الإنسانية.
هذا التجريد من الإنسانية والإنكار يلاحقنا في الحياة، وأصبح الحلم الوحيد لنا في غزة وقف الحرب، وهو ليس حلمنا الوحيد الذي نعبر عنه علانية، فنحن تجرأنا على التنازل عن جميع أحلامنا، ونقاوم الحرب والخوف والخراب.
نحن غاضبون، نشعر بالظلم وكأننا فقدنا قدرتنا على تحدي العالم الظالم، ومع ذلك نستطيع أن نعيش في عالم شريك في تجريدنا من إنسانيتنا، والمهزلة أنه صنع من الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل حقاً لها بالدفاع عن النفس.
والحال المسيطرة هي غياب العقل والنقاش الوطني الجمعي وطغيان الكراهية واستحضار الماضي للانتقام والغضب، وعيش حالة من الفوضى والشعبوية المقيتة القائمة على الثأر، والعجز عن مواجهة الغطرسة الإسرائيلية التي تقود تصرف إسرائيل، والسرديات المزيّفة وعدم القدرة على الاعتراف بالعجز وقلة الحيلة.
غزة ليست بحاجة إلى توجيه نداء عاجل إلى العالم لحماية الفلسطينيين من التطهير العرقي والمجاعة أو انتظار المتخصصين لإعلانها منطقة مجاعة، فنحن من نشعر بالجوع وشحّ الطعام الذي يصل فقط عبر المساعدات الشحيحة أيضاً. وعلى مدى عام وشهر من الإبادة الجماعية والخوف والرعب والنزوح المتكرر والجوع، تستمر إسرائيل في حربها بسياق متصاعد من المحو والتطهير العرقي والقتل والتجويع والسلوك الإجرامي.
ناهيك بزيادة وتيرة الإبادة الجماعية على جميع الصعد، من الجرائم المخالفة للقانون الدولي والقانون الإنساني ومعايير حقوق الإنسان. فيما يتماهى عدد من الدول الغربية وأميركا مع رواية الاحتلال الإسرائيلي بعدالة حربها ضد الفلسطينيين في القطاع، ويشكك في معنى القانون الدولي ويعمل على تجريد الضحايا الفلسطينيين من إنسانيتهم.
مشاهد الأطفال والنساء والرجال والمسنين يصطفون صباح وظهر كل يوم طوابير أمام ما تبقى من (تكيات) مطابخ توزيع حصص طعام مطبوخة قليلة، تدمي القلب، عدا عن الشعور بالمهانة والإذلال والحط من الكرامة.
إنها دليل على الكارثة الإنسانية والمأساة التي يعيشها الفلسطينيون في القطاع، وعلى أن سلاح الجوع وصل إلى معدلات عالية جداً، إذ لا يجد الناس مواد غذائية يسدون بها رمقهم، وهذا الأمر يمسّ الناس بشكل خطير، وهو لا يقل فتكاً عن القتل بالصواريخ التي لم تتوقف وتضرب جميع الفلسطينيين في القطاع من دون رحمة.
هدف الحرب إقامة إسرائيل الكبرى ومحو السكان الفلسطينيين الأصليين، وقد ازداد خوفهم بانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، والذي فتح شهية حكومة اليمين المتطرف إلى زيادة نطاق الإبادة الجماعية ليس في غزة فحسب، بل في الضفة الغربية أيضاً، بدليل إعلان وزير المالية ووزير الأمن في وزارة الأمن المتطرف بتسلئيل سموتريش أن عام 2025 سيكون عام السيادة على الضفة الغربية.
وهذا يعني ضمّ الضفة بما يتوافق مع خطة الحسم الذي وضعها سموتريش عام 2017، والتي تسير بخطى ثابتة نحو تغيّر واقع السيطرة على الضفة الغربية، في إطار خطواته الهادفة للضم الفعلي. وخلال الأشهر العشرين للحكومة الحالية، أحدث سموترتش ثورة في وضع اليهود والفلسطينيين في الضفة الغربية.
وهو بمثابة تغيير تاريخي حقيقي في الضفة، وها هو يصبح واقعاً لا رجعة فيه في الميدان، فسيطر على الضفة الغربية مثل الكماشة، إحدى ذراعيه هي صلاحياته كوزير للمالية، والذراع الأخرى هي الصلاحيات التي حصل عليها كوزير للأمن في وزارة الأمن.
سموتريش يعلن بذلك تتويجاً لسنة كاملة من العمل على الأرض، وتغييرات هيكلية لإدارة الضفة سياسياً وعسكرياً، وتقسيمها بمئات الحواجز والبوابات والمستوطنات. إضافة لذلك، تقول التقارير: إن "هدية ترامب" المتواضعة لنتنياهو، ستكون الاعتراف بضم الضفة والسيادة عليها.
ما سبق هو ترجمة حقيقية لضم الضفة تحت الحكم الإسرائيلي، والمضي قدماً في تحقيق الهدف الإسرائيلي المتمثل في إسرائيل الكبرى، ومحو السكان الفلسطينيين الأصليين.
سلوك إسرائيل في الإبادة الجماعية، تحجبه السرديات الإسرائيلية الكاذبة عن حرب اللاخيار التي تشنّها دفاعاً عن النفس، باعتبارها أفعالاً تستهدف الشعب الفلسطيني بصفته وحقه في كامل الأراضي التي يقيم فيها، تعزيزاً لطموحات إسرائيل السياسية في فرض السيادة على كامل فلسطين التاريخية.
ما يخيف أننا نرى التاريخ يعيد إنتاج نفسه في فلسطين التاريخية المحتلة والظلم التاريخي واللامبالاة، والقدرة ليس على غض النظر فقط، بل بالشراكة في تكرار نكبات الفلسطينيين من القوى الاستعمارية الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية ورئيسها المنتخب، الذي يؤمن بالصفقات لا بالحقوق، ناهيك بأن الكثير من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وصمت الدول العربية وعجزها، وبانهيار كامل للنظام الدولي الذي يقوم على مبدأ عدم تكرار ما وعد به العالم بعد الحرب العالمية الثانية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها