الانتخابات الأميركية هي انتخابات ديمقراطية إلى حدٍّ بعيد نسبيًا فكل مواطن أميركي يمتلك صوتاً لا يقل عن صوت أي مرشح سواءً للرئاسة أو لمجلسي الشيوخ والنواب. بالتالي من حيث الحقوق الفردية في الانتخاب والترشح فهي مكفولة بالقانون وتخضع ضمن معايير تسمح لكل من تنطبق عليه أن يترشح لشغل منصب أي من المؤسسات الثلاثة آنفة الذكر.
تعاقب على الولايات المتحدة ستة وأربعون رئيساً ونحن على بعد فترة قصيرة من تنصيب الرئيس السابع والأربعين. كان الالتزام بفترة السنوات الأربع للبقاء في البيت الأبيض صارماً (إلا في حالات قليلة عند اغتيال الرؤساء، أو إقالتهم أو استقالتهم).
منذ خمسينات القرن التاسع عشر انحصر رؤساء الولايات المتحدة في الحزبيين (الجمهوري والديمقراطي) وعلى الرغم من كون نظام الانتخاب في أميركا أكثر مرونة مما عليه الحال في المملكة المتحدة إلا أن النظام نفسه يمنح الحزبين الفرصة الأكبر.
وبالعودة إلى الموضوع الرئيسي، وهنا ربما تُطرح تساؤلات كثيرة، بما أن الانتخابات تجري في مواعيدها، ويتم التسليم بسلاسة فما هو الجديد؟ خاصة وأنه وعبر سنين طويلة تعاقب الحزبان على إدارة الولايات المتحدة ضمن سياسة المؤسسة وبتأثيرٍ محدود للشخوص، أما دواعي اختيار العنوان فهي مرتبطة بعدة عوامل مستجدة في أميركا والعالم.
ومع دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في الفترة الرئاسية السابقة طفى الصراع على السطح وحل محل التنافس بين الحزبين ورغم أن ترامب لم يخض أي حرب خارجية إلا أنه رفع العصا الغليظة في وجه حتى الخصوم فحاصر إيران وابتز العربية السعودية وحاول فرض صفقة القرن، كل ذلك كان مرتبطاً بعوامل داخلية تخص طبيعة ترامب وتوجهاته السيودينية (ربط السياسة الأميركية بالرؤيا الايفانجيلية) وقد كانت حينها الظروف في الولايات المتحدة مريحة إلى حد ما وكانت امتداد لفترة الحرب الباردة التي من نتائجها تبعية الغرب كاملاً للولايات المتحدة مرورًا بانهيار الاتحاد السوفييتي حتى بداية استعادة روسيا الإتحادية لعافيتها وبدء تشكيل حلف سياسي اقتصادي، إن لم يكن نقيض للحلف الأميركي الغربي فسيكون منافس قوي، ونعني مجموعة البريكس الصاعدة.
عبر التاريخ عملت الولايات المتحدة إلى افتعال الحروب خارج حدودها للحفاظ على هيمنة سياسية واقتصادية مدعومة بالقوة العسكرية على العالم، فنشرت قواعد عسكرية في مشارق الأرض ومغاربها، وأنشأت ودعمت فصائل التطرف في كل القارات حتى تُبقي مصانع السلاح تعمل خاصة وأنها تسهم بشكل كبير في الدخل القومي. وللتدليل على ذلك نورد بعض الأمثلة، حيث احتلت أميركا دول مختلفة مثل نيكاراغوا، كوستاريكا، غواتيمالا، غرينادا، بنما في أميركا اللاتينية والعراق وسوريا في الشرق الأوسط والفيتنام في آسيا. ولتعزيز الهيمنة نشرت قواعدها في هندوراس، قطر، كوريا الجنوبية وغيرها.
أما اليوم وبعد إعلان فوز ترامب فإن على أميركا أن تعيد حساباتها في علاقاتها مع الخارج من جهة وتصويب الأوضاع في الداخل من جهة أخرى من أجل البقاء كشريك في صدارة العالم ضمن عالم متعدد الأقطاب وأن تبقى موحدة خاصة وأن ترامب لن يحظى برئاسة ثالثة، فإن على الإدارة الأميركية الانكفاء نحو الداخل من أجل تحصينه وهذا سيتيح بناء علاقات جديدة بين الشعوب أكثر عدلاً وانصافاً.
والمطلوب من الإدارة الأميركية الكف عن الشعور بالفوقية خاصة في ظل الظروف الدولية الراهنة والحروب الدائرة بما فيها حروب الأوبئة، كما أن على الإدارة الأميركية تفكيك قواعدها في الخارج وتصليب اقتصادها على أسس مغايرة لما هو حاصل، فالدولار سينهار وتجارة السلاح كذلك.
إن وجود تكتلات سياسية اقتصادية صاعدة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية مثل البريكس ومجموعة النمور يصعب كثيرًا من استمرار قيادة العالم بقطب واحد كما أن هذه التكتلات ستقلص كثيرًا من إمكانية أن تنهب الولايات المتحدة وحلفائها مقدرات شعوب الجنوب.
إن لدى أميركا القليل من الوقت لتصحيح المسار والحفاظ على ذاتها كقوة فاعلة في المشهد الدولي، فإن لم تفعل، سيكون أمامها خيارين لا ثالث لهما، الخيار الأول التفكك والذهاب إلى تحويل التنافس الداخلي إلى تصارع وربما اقتتال، أما الخيار الثاني فهو الذهاب إلى حرب عالمية لن تخرج منها أميركا منتصرة، بل ستعيد من يبقى في هذا الكون إلى العصر الحجري.
وهنا أنتهزُ الفرصة لأخاطب قيادة الولايات المتحدة الجديدة بكل مؤسساتها وأقول لقد حاولتم وربيبتكم إسرائيل خلال ما يزيد على مئة عام طمس هوية الشعب الفلسطيني، ولم ولن تفلحوا، وعليه أنصحكم بإلزام ربيبتكم بالكف عن حماية هذا الكيان في مجلس الأمن حينًا وبالقوة في كل الأحيان، إن على إسرائيل التخلي عن أطماعها في فلسطين والمنطقة، أما أنتم فعليكم العمل مع الأقطاب الجديدة من أجل تمكين شعوب العالم وعلى رأسها الشعب الفلسطيني من الانعتاق من ظلمكم وعدوان صنيعتكم.
سواء فعلتم أم لم تفعلوا ستتحرر كل شعوب الأرض وستسهم في ترسيخ عالم أكثر إنسانية، يسوده السلم والاستقرار والازدهار. فأنتم مطالبون أيها الأميركيون بالكف عن ممارسة دور الشرطي وعن تبني الدول الإرهابية المارقة كما هو حال الكيان الصهيوني وكفى تفريخاً للإرهاب في كل مكان.
وفي الختام أتمنى للشعب الأميركي وقيادته الجديدة صحوة تؤهله للإسهام في بناء عالمٍ جديد وأن يكون دوركم مغاير لما حصل خلال قرنين ونصف من عمر دولتكم ولكي تخطوا حروفًا مشرقة في التاريخ تعفيكم نسبيًا من كونكم الدولة الأكثر دموية وأذية عبر التاريخ.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها