لا يختلف إثنان على أن النظام الدولي ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي كان يشكل مظلة حماية للدول المحايدة، تحميه من سطوة النظام الأحادي القطب الذي هيمن وسيطر على العالم بعد ذلك. كان الفرد البسيط في تلك الدول وهو الذي من المفترض أن لا يرى أو يسمع أو يشعر بالكوابيس والنواميس لتلك القوى على الأرض، هو اليوم يتحدث عن تلك الفترة الزمنية آنذاك فقد شكلت نوعًا من الحماية أبعدت عنه شبح الهيمنة الدولية، وعلى عكس ما استجد من تغيرات جيوسياسية بعد الانهيار  فقد شكل ذلك عبئًا على كاهل المجتمعات إكتوت بنارها في هذه الدول والتي لا تجد لديها الرغبة في الولوج إلى هيمنة القوى الكبرى. 

مما لا شك فيه أن النظام العالمي أحادي القطب ، أحدث تغيرات جيوسياسية من خلال الحروب التي اشتعلت في الساحات الدولية وخاصة في الشرق الأوسط، كان لها انعكاسات كبيرة على الخارطة السياسية في الإقليم والعالم. التدخلات العسكرية من خارج القوى الإقليمية والتدخلات المختلفة سببت الكثير من التغيير على أرض الواقع وكان لها أثرها بعيد المدى، ولربما لم تلاقي استحسان أي من التكتلات البشرية والإنسانية التي عانت الأمرين من تلك التغيرات، ولعل تلك القوى التي جلست على عرش منظومة القطب الواحد في لحظة ما أحست بالندم على هذا التغيير في المواقع التي أثروا فيها بالتغيير، ولكن كان ذلك بعد أن فات الأوان ولا سبيل للعودة إلى الوراء،  ومع ذلك فإن الحرب التي تشن على غزة اليوم وضحايا جلهم من المدنيين النساء والأطفال وتدمير شبه كامل للمنشات والمرافق المدنية من المدارس والمستشفيات والجامعات كل ذلك يندى له جبين العالم في ظل سكوت هذا النظام العالمي الظالم، بل ومشاركته في العدوان. وبالرغم من الآلام التي حدثت في كثير من المواقع الشرق أوسطية في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا والسودان إلا أن المقتلة التي تشن في غزة اليوم ولبنان ضد المدنيين سوف تترك آثارًا طويلة الأمد في منطقة الشرط الأوسط ولربما تكون السبب في إحداث التغيير إلى نظام دولي جديد يجد فيها الأطراف أكثر أمنًا وحماية من الوضع الحالي.

الشرق الأوسط وفي ظل الدعم الكبير اللامتناهي وغير المحدود من الولايات المتحدة الأميركية، لدولة الاحتلال وهي تشن عدوانها على المدنيين في غزة ولبنان، تتحدث اليوم بكل صراحة عن تغيير في وجه الشرق الأوسط من خلال حكومتها رئيسًا ووزراء، وأمام مرحلة جديدة لظهور شرق أوسط جديد على الخارطة الدولية، من المحتمل أن نشهد فيها  التوسع لدولة الكيان على حساب الأرض الفلسطينية، ويبدو أن فوز ترامب إذا ما تم سيساهم ويسبب في نهاية المشروع الوطني الفلسطيني وحلمه بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

هذا يعني بكل ما تعنيه الكلمة من معنى أن النظام العالمي أحادي القطب لم ولن يوفر الأمن ليس فقط على الكرة الأرضية، بل أسهم في تعزيز ما أطلق عليه  الفوضى الخلاقة التي سادت المجتمعات في الشرق الأوسط مع اندلاع ما يسمى بالربيع العربي وحتى يومنا هذا، إذ أن دول المنطقة ما زالت تعاني الأمرين منذ أحداث أيلول 2021، فيما يسمى عملية 11 سبتمر التي قامت بها داعش على برجي التجارة العالمي في نيويورك.

يبدو أن الخارطة السياسية تشهد تنافسًا كبيرًا  في المنطقة من الممكن أن تحدث تغييرًا، يسبب في تغيير لملامح التكتلات الحالية، وتشهد اطلاق المشاريع الدولية الضخمة من خطوط النقل والمواصلات، ونقل البضائع عبر هذه المقترحات من المشاريع إلى الغرب عبر الشرق الأوسط الجديد الذي يحقن بالتنافس الدولي، والذي تقوده الصين والولايات المتحدة الأميركية ونشوء معسكرات جديدة تدعم أيًّا من تلك التوجهات وبالتالي نشهد تكتلات تتسواق مع ذلك التغيير، تتم فيه تحديد ملامح جديدة للنظام الدولي الجديد.

وفي هذا السياق كتب وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن مقالاً في مجلة فورين أفيرز يتحدّث فيه بصراحة عن "المنافسة الشرسة التي تدور الآن لتحديد ملامح عصر جديد في الشؤون الدولية، ويحدد بلينكن أربعة دول تعديلية تهدف إلى تحدي الولايات المتحدة والنظام الدولي، الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية. بهدف العمل على تآكل أسس الولايات المتحدة، التي حددها بلينكن في تفوقها العسكري والتكنولوجي، وعملتها المهيمنة، وشبكتها التي لا مثيل لها من التحالفات والشراكات، مع التركيز على الصين باعتبارها "الدولة الوحيدة التي لديها النية والوسائل لإعادة تشكيل النظام الدولي". نستطيع أن نفهم مما كتبه السيد بلينكن في هذا السياق أن منطقة الشرق الأوسط مهيئة للانطلاق نحو عصر جديد متعدد الأقطاب.

ظهور مجموعة البريكس اليوم بقيادة روسيا والصين وهي تتصدر المشهد الدولي يعتبر أحد المتغيرات الجديدة التي قد تحدث انطلاقة في وضع طال انتظاره، قد تحدث تغييرات سياسية مدعومة من "الصامتين" دولاً وأفراد وخاصة إذا ما ارتكبت حماقات في المشهد السياسي الشرق أوسطي، تكون الشعرة التي قسمت ظهر البعير في تغيير التحالفات الدولية، وإن غدًا لناظره قريب. ومن الواضح أن المناخات لهذا التغير قد وصل مرحلة اللاعودة، وإن قطار التغيير قد بدء فعلاً العد التنازلي استعدادًا للانطلاق.