في الآونة الأخيرة، باتت السياسات الألمانية تجاه المنطقة تتجه نحو انحياز غير مبرر. التصريحات والخطابات الأخيرة تثير قلقًا جديًا. رغم إدراكنا العميق لمسؤولية ألمانيا التاريخية تجاه إسرائيل بسبب محرقة الهولوكوست، إلا أن السياسات الحالية، التي تركز بشكل أساسي على الدفاع عن إسرائيل وتغفل عن حقوق الفلسطينيين، تعد انتهاكاً واضحاً للقيم العالمية التي لطالما تبنتها ألمانيا، كالديمقراطية وحقوق الإنسان. هذه السياسات لا تعكس التزاماً حقيقياً بالقانون الدولي، ولا تساهم في تحقيق السلام العادل والمستدام في المنطقة.
ألمانيا، التي لطالما كانت مدافعة عن حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية، اليوم تدعم السياسات الإسرائيلية الاستيطانية والعدوانية والجرائم ضد الإنسانية، دون أي اعتبار لمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال. في الوقت الذي تدعو فيه ألمانيا إلى حل الدولتين على المستوى الخطابي، نجدها تستمر في دعم إسرائيل عسكرياً، ما يتناقض مع أهداف تحقيق الأمن والسلام.
التوازن مفقود في العلاقات الألمانية الإسرائيلية، العلاقة متجذرة في تاريخ المحرقة، حيث تتحمل ألمانيا مسؤولية تاريخية عن الجرائم التي ارتُكبت ضد اليهود الأوروبيين. منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 1965، تعمقت العلاقات بينهما في مجالات الاقتصاد والثقافة والسياسة، ما جعل ألمانيا شريكًا رئيسيًا لإسرائيل على الساحة الدولية. تُعد ألمانيا الشريك الاقتصادي الأهم لإسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ حجم التجارة بين البلدين ما يقارب 9 مليارات دولار في عام 2022. كما تستفيد الشركات الألمانية من العديد من مشاريع البنية التحتية الإسرائيلية. ومنذ اتفاقية لوكسمبورغ في عام 1952، تدفع ألمانيا تعويضات للناجين من المحرقة، حيث بلغت دفوعاتها الإجمالية حتى الآن حوالي 82 مليار يورو، ورغم محاولة تفهمنا لهذا الالتزام التاريخي، نجد أن دولاً أخرى في "الفايسغراد" مثل بولندا أجرت مراجعة جذرية لهذا الالتزام بما يضم مصالحها الوطنية.
تلعب ألمانيا أيضًا دورًا كبيرًا في دعم إسرائيل عسكريًا من خلال التسليح. في عام 2022 وحده، وافقت ألمانيا على صادرات أسلحة إلى إسرائيل بقيمة 326.5 مليون يورو، بما في ذلك معدات عسكرية وأسلحة حرب. وخلال العقد الأخير (2013-2023)، جاء 29.7% من واردات الأسلحة الإسرائيلية من ألمانيا. هذه الأرقام تثير تساؤلات حول الدور الذي تلعبه الأسلحة في استمرار الصراع وفي دعم جريمة الإبادة، كما يبدو أن التزامات ألمانيا الشفوية بحل الدولتين تتناقض مع هذه الصادرات.
إضافة إلى ذلك، برزت قضايا وتحديات جديدة منها حرية التعبير وحقوق الإنسان كأحد التحديات التي تواجهها ألمانيا في مناقشة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. تعرض العديد من الناشطين والمدافعين عن حقوق الفلسطينيين للاعتقال أو القمع عندما عبروا عن انتقاداتهم للسياسات الإسرائيلية، وهو ما يقوض القيم الديمقراطية التي تدافع عنها ألمانيا. ومن المهم التأكيد على أن دعم حقوق الشعوب المحتلة لا يعني معاداة السامية. يجب أن يكون الحوار حول هذا الصراع متوازنًا ويحترم السياق التاريخي. إن انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالتوسع الاستيطاني والعمليات العسكرية، لا يمثل هجومًا على الشعب اليهودي أو الديانة اليهودية، بل هو دعوة إلى تحقيق العدالة وفقًا للقانون الدولي. وقد أكدت أحكام محكمة العدل الدولية (ICJ) في يوليو 2024 وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة على ضرورة أن تتخذ ألمانيا موقفًا متوازنًا بين ضمان أمن إسرائيل واحترام حقوق الفلسطينيين.
وفي سياقٍ آخر وغير منطقي، تعكس إصلاحات قانون الجنسية الألمانية لعام 2024 توترات سياسية واجتماعية أعمق. فقد تمت إضافة أسئلة جديدة في اختبار التجنيس الألماني تغطي موضوعات مثل معاداة السامية وحق إسرائيل في الوجود والحياة اليهودية في ألمانيا.
يشعر الفلسطينيون بأن الخطاب العام لألمانيا، لا سيما فيما يتعلق بالحرب على غزة، يميل بشكل واضح إلى الدفاع عن المخاوف الأمنية لإسرائيل بينما يتجاهل الأزمة الإنسانية التي يعاني منها الفلسطينيون. وبينما يُدرك الفلسطينيون المسؤولية التاريخية لألمانيا تجاه إسرائيل، إلا أن هناك تزايدًا في الإحباط من أن هذا الشعور بالذنب يُستخدم لتبرير دعم غير مبرر وغير متوازن للجرائم الإسرائيلية، حتى عندما يتعلق الأمر بانتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني. وهذا يضع ألمانيا في معادلة صفرية مع القانون الدولي والتزاماتها الأخلاقية والقانونية كعضو في المنظومة الدولية.
ألمانيا اليوم مطالبة بمراجعة سياساتها الخارجية فيما يخص القضية الفلسطينية. إن الدعم غير المتوازن لإسرائيل، دون اعتبار كافٍ لحقوق الفلسطينيين أو للقانون الدولي، يقوّض القيم العالمية التي تدافع عنها ألمانيا مثل حقوق الإنسان والعدالة. إن الغموض الواضح والتجاهل لمبادئ القانون الدولي أمران يثيران القلق بشكل خاص، حيث يبدو أن نهجها يتناقض مع جوهر السياسة الخارجية النسوية التي تتبناها، والتي ينبغي أن تعطي الأولوية للتعاطف والمساواة والقيادة الحكيمة. إن المسؤولية التاريخية تجاه إسرائيل لا تعني تجاهل الحقوق الإنسانية المشروعة للشعب الفلسطيني. آن الأوان لألمانيا أن تقف بجانب الإنسانية والقانون الدولي، وأن تتبنى سياسة خارجية ترتكز على القيم المشتركة والمساواة، والدفاع عن حقوق جميع الأطراف كسبيل نحو سلام مستدام وحقيقي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها