من غزة كتبوا بحبر المرارة، فحبرها قد لا ينفع وسيذهب سدى إذا تبعثرت، فالأصل أن يدرك الانسان هول الموت، وفظاعة المصيبة، ويعيش دورًا حقيقيًا واقعيًا في براري المعاناة، ويسير في درب الآلام، ويصنع قلمًا من عظام صدره، ليكتب حروفًا وكلمات كزيتٍ لمشكاة، قد تضيء دروبًا مظلمة لحياته الباقية، التي لا يعرف إنساننا الفلسطيني هناك إن كان سيمضي لرمشة عين أو ثانية أو دقيقة أو ساعة أو يوم أو أسبوع، أما الشهر فكأنه دهر مجلبب بالأحزان المثقلة بموت الأحباب ودمار البيوت، لكنهم يصرون على الحياة ويأتون سبيلها، فهم يحبونها، ولا يعشقون الموت، لأنهم ينتظرون رؤية فرحة العيد على وجوه أطفالهم، لكن هل أتى العيد فعلاً على فلسطين، هل رأى أهل غزة هلال السلام ؟!
آثرت نقل ما كتبوه بحبر مرارتهم، فعندما يقرأ مُلاَك الاحساس يظنهم شعراء، أو كتابًا وأدباء، لكنهم من أديم الأرض المقدسة بسطاء، عقلاء، وكبراء. فإن كانت أمنياتنا بالعيد نقولها: "كل عام وانتم بخير" أو "عيد سعيد" فإننا هنا في فلسطين، وفي غزة بالذات، بات الاستيقاظ تحت سقف البيت وجدرانه القائمة، ونجاة طفل استبقاه القادر على قيد الحياة، دون أبويه وأخوته أجمعين هو الخير. أما السعادة فقد هاجرت قسريَا ولا يعرف مواطننا الانسان هناك متى تعود، لكنه لم يفرط بحقه المقدس لاستعادتها، فالشقاء ليس دينا، ولا فلسفة، ولا كتابًا، ولا قانونًا، إنه صناعة بشر همجيين، لسنا منهم وما كانوا منا قط.
كتب الدكتور أحمد هشام حلس بالمحكية ومعانيها المبسطة لكنها فصيحة بصراحتها وصدقها: "اللي بنشوفه في مراكز الايواء كل يوم شيء لا يمكن وصفه أو تخيله، فالطفل من خمس شهور بيجري من منطقة لمنطقة وهو ميت من الخوف، وحافي ومن غير أكل، ولا لبس، ولا حماية، ولا أمان".
ويمضي مستخلصًا: "اللي بنى غزة أولادها هم ناسها المخلصين، اللي عمّرها أهلها، وصحابها من القطاع الخاص ورجال الأعمال، عملوا في غزة حضارة ورقي رغم كل التحديات والصعاب، وفي الآخر دمرها اللي ما إلو براس مالها اي قرش، ولا عندو إلها أي انتماء، بل على العكس كان يتحير كيف يمتص دمها".
وكتب خليل البلبيسي: "كل شيء ثمنه غالٍ إلا آلام وأوجاع أهل غزة رخيصة ومجانية، فويل للوطــن عندما ينحرف المتدينـون". ثم كتب: "في قديم الزمان كان القربان بشريًا ثم جاء الاستبدال الإلهي الأول: أضحية مقابل إنسان إلى أن انتشر مرض هذا العصر، إذ لا فرق بين من يمارس القتل والمتفرجين المتعطشين لمشاهدة صور الوحشية الدموية فينا، للأسف لم يتبق إلا عنونة هذا العرض بعبارة "للكبار فقط".
أما بهاء ماهر فقد كتب: "مشاهد الدمار بخان يونس فظيعة جدًا ولا يتقبلها عقل! ويتساءل: "ما الثمن الذي سنجنيه من وراء هذا الدمار في الشجر والحجر والبشر؟! وأي مكسب استراتيجي سيكون مردوده على أطفالنا وأجيالنا اللاحقة؟!
ما حد يقول لي عزة وكرامة وأبصر شو، بعد ما انتهكت كل الحدود على شرف نسائنا ومقدساتنا".
وكتبت هناء عليوة تنتقد المصفقين لطغيان الموت على غزة وتدعوهم لمعايشة التجربة: "جرب تنسى إنه لك حياة، جرب تنحرم من إنسانيتك، ومن مستقبلك، ومن حقك. جرب تنظلم، وتفقد كل شي من حياتك! جرب تموت من البرد لأن ما معك لبس شتوي ومش لاقي لبس شتوي، وتعال قلي قديه حاسس فينا.
جربت تكون مرتك حامل في شهرها بالحرب؟! جربت شعورك أو شعورها كيف هتروح تولد في نص الليل ولا تحت القصف؟ انقطع حليب الأمهات من صدورهن بسبب الخوف وقلة الأكل، جرب شعورك لما ابنك يولد في حمام أو في سيارة أو في الشارع أو في خيمة! وما تلاقي لبسة لابنك المولود! فتلفه بوجه فرشة ولا اسدال صلاة. جربت تحتاج دوا لمرض مزمن إلك أو لأمك أو لأبوك وما تلاقيه؟! جرب وبعدين تعال قلي قديه حاسس فينا!
وكتب شادي جواد صقر: "لن تحتفلوا هذا العام لأن الأرواح التي صعدت إلى السماء لتشتكي لرب الكون، أن الأطفال اللي بينتظروا العابهم في العيد كل عام، صعدت أرواحهم للسماء، وبلادي صارت مدينة أشباح".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها