كان يا ما كان أمير صغير، وربما يكون الكبير، أمير الحكايات والأحاديث، ومالك الخيال، وعاشق الترحال، أنثاه صارخة الجمال، وممعنة بالأحزان، وشقية تعتدي على عرشه، يستسلم في أتون عرينها بلحظة انبلاج الحقيقة والكشف عن الزيف، يفكك طلاسم اللحظة، يغدو مقاتل الليل، ويمارس العشق بوضح النهار، لا يخشى هرطقات الكلام، ولا يرتبك عند السؤال، بوصلته واضحة الاتجاه، له حساباته الخاصة، وجبهته غير محنية، ولم يحنيها حية، لا يعرف المستحيل، والمستحيل بكل استحالاته، عاشق ولهان، يعرف كيف يمارس عشقه ويقاتل الطغيان، تناقضاته معلومة ومعروفة وقد تكون الملموسة، وله أسئلته المعلقة على جدران البيوت المحروقة، كان هناك وما زال هنا، يتصدى لقتلة الحلم ، والاستيلاء على شوارع البحر وارصفة المدن وان كانت مقصوفة، لا يستسلم لنداء الاحباط والاستكانة وإن كان القتلى بالأرقام محصية، له فلسفته الخاصة للموت والقتل والعبث الجديد، وصرخته بالضربات الموجعة مُحكمة متحكمة بالوجع، والوجع شعور بألم الجوع لطفل يجوب بين القصص وحكايات يوميات الابادة.
يعرفهم جيدًا، يعرف المتخاذلون وهؤلاء المتواطئون، ومن لا يقبل الاستسلام برغم كل الضجيج بتدمير الحياة في حواري من لا حياة لهم، في ظل الحصار والمطاردة لعقود من زمان من قبل اصحاب الزمن المضبوط بالتوقيت العبري، وهو من يعرف بالضبط معنى الوجود ودلالة البقاء، وإن أصبحت المناخات هناك طاردة لبقاء من لا بقاء لهم في ظل جنون الحقد على أول الكلام وأول التحدي لممارسة أعتى أشكال الحياة والصراع للبقاء والبقاء حتمية تاريخية، والمدن لا تموت.
كان يا ما كان، أمير صغير، وربما يكون الأمير الأكبر، ولد مرتين والثالثة على الأبواب، الأولى في الأوجاع، والثانية في الغضب، والثالثة سيأتي ذكرها بفرح وبلا ألم وعند الاجابة على الاسئلة المعلقة التي تبحث عن المفردات غير المتلعثمة، المعبرة عن حقيقة الولادة من جديد ولفظ الملفوظ المتعفن في أزقة الحارات المنسية وتلك التي صارت ركامًا على جوانب المدن الحديثة الزائفة، مدن البلاستيك والعلب الاسمنيتة، فقد جاء الأمير الصغير مشاغبًا محاولاً أن يشدو أغانيه ويصدم الأباطرة بالسؤال الباحث عن كينونته.
في حضرة الأسئلة الصعبة التي تظل دون إجابات تتغير المعاني، يتراءى من بعيد الأمير المشنوق المعلق على أعواد البحث عن حقيقته، ولربما تنقلب أيضًا موازيين لغة الكلام، فأبجديات قوامسينا تبدلت، وضجيج خطاباتنا قد اختلفت، ولغتنا العربية قد صارت ركيكة لا نفهم معانيها كونها تحمل كل التفسيرات التي نريد وفلسفة الإجابات المزورة وغير المعبرة عن حقائق اللحظة بكل مكوناتها وحيثياتها، وانقلبت كل المفاهيم وتداخلت كل القيم وصار لابد من أن نعتلي مقامات الشأن الرفيع حتى نعي ونستوعب اللغة من جديد، ولابد لنا من أن نجيد دهاليز اللعب على كلمات الحذلقات السياسية ومواءمة الفهم بالفهم الرشيد لما يقوله السادة الكبار في القوم.
في حضرة الاسئلة الصادمة كل شيء قد تبدل، وصار لابد من أن نستوعب أننا أمام الاجابات الكاذبة ، ولابد لنا من أن نجيد من جديد التعلم والتعليم لكيفية الكلام وخطاب ذوي الكروش المنتفخة، المتاجرون بالألم القابضون على مصائر الأمور، والمصير قد أضحى متلاعب به. لا مكان لمن يريد أن يتحدث عن الشجن و الحزن والهم. لابد من أن تختصر الكلمات فجلالة السؤال مطارد بالهموم والأشجان، فإلى أين نحن متجهون؟ وماهي طبيعة حقيقتنا؟ وما هية الوطن الغارق بالأحزان؟ أم هي الكذبة الكبرى بممارسة الفعل والفعل غائب عن يوميات الجميع والكل غارق بمطاردة لقمة العيش بعيدة المنال، ولا مكان للفقراء هنا، وأقصد فقراء فهم الفهم الجديد ولا مكان إلا لمن يجيد فن اللعب على الكلمات، وإلا فمكانك هناك بحضرة القبر المزخرف للأمير الصغير اللاهث خلف الولادة من جديد.
لابد لك وأنت تعبر المكان أن تقف لدقائق عند ركام عرش الامير المنهدمة أركانه، حتى تنبه ذاتك أن سيد المكان قد تغير وأن القائد قد ترجل وان أصحاب المعالي والفخامة والجلالة هم من يسكون قصر السلطان القادمين على ركام عرش أمير الأمراء الفعل الماضي، وسيد القصر لا يحب المجاملات وليس له عادات الترحاب والترحيب بزوار المكان القدامى، الذين لا يجيدون صناعة الاحلام خارج ذاكرة المكان والزمان. الغرباء بأحلامهم وارتجالاتهم.
عشاق الحواري العتيقة جاؤوا من نبض الوجع الساكن بين ثنايا معابدها المهجورة، ومن عبق أبخرة صوامعها المعمورة بأرواح من عبروا المكان ونقشوا أسماءهم على الجدران، ومن أقاصيص سفر التكوين منذ أن تعالت صيحات التهليل والتكبير للآتي من السماء، ولمن سار على الماء، واستقر مصلوبا على تلة المعبد العتيق، ومن قصة الصعود إلى السماء ليلقي خطابه هناك بحضرة الأنبياء، جاءوا من فسحة الأمل الموصولة ما بين الأرض وسماء الصعود، جاءوا ليشكوا الحال والحال قد أضحى غريب عجيب، فأم المدائن بالإنتظار. وانتظارها قد طال، وجميلات حواريها ما عدن ينتظرن قدوم الليل أو أول الصبح، وصرن العجائز المنتظرات لإبتسامة عابرة، ولحكايات الزمن الجميل، ورجالها يفترشون الأرض ويلتحفون السماء عند الأسوار ويناجون الرب ابتهالاً بأن يبقوا على العهد القديم وإن يمنحهم شيئًا من فعل رجولة ضاعت في دهاليز العصر الجديد، العشاق جاءوا لينطقوا الكلمة الفصل في عصر الإنهيارات الكبرى، وجاءوا ليقولوا ان للحارة القديمة وأبوابها حراس وحراسات، وإن للمعبد سجد ركع معتصمين بحبل الله جميعًا، ولم يهونوا ولن يهونوا وسينطقوا بالضاد دومًا.
في حضرة الأسئلة الباحثة عن مستقر لها، تتبدل الإشارات ويهب من يهب واقفًا مؤيدًا أو مدافعًا عن طبيعة المرحلة وظرفية الواقع ومتطلبات الواقعية الجديدة، ومن أنصار يهوذا من يهتف بحياة وحكمة ورؤية سيدنا الجديد، القابع بقصر السلطان اليوم، رجالات القصر متأهبون بكل مكان لمن تخول له نفسه أن يحلم خارج إطار أحلام الواقعين الجدد، أو لمن يحاول استذكار مقاربات الحوار الذي كان في المكان قبل أن يترجل ذاك الباحث عن الإجابات للأسئلة الصعبة المرابط بجانب القبر المزخرف.
قال أحدهم، الرجال تائهون ضائعون ما بين زعماء القبائل، وامراء الجيوب المنتفخة، ومن يحترفون تنميق الكلام، ودعاة العصرية المعولمة والمعلبة بالمفاهيم القادمة من صناعة الحرب والسلم تجار العم سام.
وقال آخر الأزقة ما عادت أزقتنا، صارت حكاية في كتب صفوف المدارس حينما نتحدث عن تراثنا. وعن ذاك الفيصل الفاصل للتاريخ، حينما كان قبلة لكل من يأتينا شاكيًا باكيًا متضرعًا لنصرته ونصرة حقه.
ومن قال نريدها عربية، ومن زمجر مستنكرا تهويدها، وأسرلة سكانها، ومن وقف صارخًا شاكيًا حق رعاياها بالدعم لتعزيز الصمود، وأخر قال أنا أميرها ومخلصها. ولابد من مبايعتي وكان خلاف وحوار على من يكون الأمير. ومن سيكون سيد الآزقة والحواري العتيقة؟ وما هي أفعاله؟ وكيف سينطق بلغتها؟ ويقسم عليها وبها. وتنطاح الجمع بالكلمات وكنا كما كنا بحضرة الأسئلة التائهة، نرتل من وراءه الكلمات. ليكون الفصل الجديد في مسلسل تكوين اللجان لرفع التقارير لصناعة الصمود من جديد. ولكن هذه المرة بما يتناسب ووقائع المرحلة ومتطلبات العصرية المعولمة بالإجابات المزيفة للأسئلة الهائمة، لنأخذ بالحسبان أن الطريق إلى المعابد والركوع بحضرة الرب قد صارت طقسًا من طقوس التيه والزيف، تتطلب سلوك الطرق الجديدة بفعل الجدران العالية الفاصلة للحلم والمانعة له من ان يتشكل.
فقد كان يا ما كان أميرًا صغيرًا باحثًا عن حقيقته بالايمان لمغزى الوجود لفعل الرباط على أسوار الحارة القديمة الرابضة على روابي الصعود، وفلسفة السؤال هي من تفرض البحث عن الإجابات المُقنعة بالابجديات غير القادرة عن تفكيك طلاسم جبروت أولي أمر الألهة الوثنية، المشوهة للوطن وللحارة العتيقة، الخاضعة الساجدة في محراب مؤامرة المواءمة لصلوات الخضوع لقياصرة الزمن غير الجميل.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها