لقطر الندى صرخة مدوية في حواري الزقاق، ولها أن تتألم من وجع اللحظة فقد جاءت ساعة الحقيقة لتكتشف أن هناك من يغضب لمنظر امرأة لا ترتدي حجاباً اكثر مما يغضب لمنظر طفل جائع يُذبح ويُقتل ولا يرتدي حذاء. هذه الجغرافيا الممتدة من ذاك المحيط الفاصل إلى الخليج الذي يُراد له أن يَنطق بغير الضادّ.
يتجول المجهول في ثنايا تلك العباءات الآتية من رحم الصحراء ومجاهيلها، ليتلو مزاميراً كانت أن اندثرت في غياهب تيه الظلامية، وفي ظل زهر اللوز الذي يحاول أن يتألق ويزهو، وحينما تصدح أهازيج فرح متسللة إلى بيوت الفقراء بليل العراء عند النار الموقدة المعلنة عن قدوم الفلاحين البسطاء، قد كانوا للتو هناك. يحرسون القمر الساطع على حقولهم ويمارسون لعبهم وفرحهم ويهمسون بالشجن أحزان الثكالى. ويباغتهم ذاك الصوت النشاز متوعدًا بجهنم وبئس مصيرهم. حينها تطل تلك الشاردة من وقائعها ووقائع اللحظةِ الراهنة حيث المطاردة لتطايرِ خصلاتِ شعرها. وهو رجسٌ من فعلِ الشيطان. وتستمر المطاردة لطفلة ابتسمت في زقاق الحواري لفتى حاول أن يقول ما قال اسلافه الأولين حينما تغنى آدم بحواء، وهبط ببقاع المعمورة ملتهماً التفاحة، وحواء كانت الجالسةُ خلسةً وافسد الحسابات وتلك المعادلات لتتكون ادميته وبشريته بثوبها وشكلها.
انتظروا قليلاً لم تبدأ الأقصوصة، فقد كانوا هنا يحاولون التعايش ووقائع أيامهم، قبل أن يمتهنوا الاصطفاف بطوابير الجوع والألم. انتظروا قليلاً لم تبدأ الحكاية، فثمة من يراهن على سقوطهم عند اعتاب القبور، وهنا بعاصمة السراب وبتلك المدن ينتظرون.
انتظروا قليلاً سأروي لكم تناقض المدائنِ العريقة وتلك القديمة والبلاستيكة المصطنعة المُصنعة، والفاقدة للهوية، والفاقدة لمعنى وجودها والطارئة على التاريخ، وتلك المدينة القادمة إلى أتون الحياة برغم الموت والدمار والحرق والإحراق، والقادرة على النهوضِ والاستنهاض والعاشقةِ المجنونة، مدينة البحر وتلك البكر، اللافظة لكل أشكال السلطات. المتمردة على البحر وأمواجه، المطوّعة للغول في دفاتر الأساطير، القادمة إلى مقصلة الحقيقة الراهنة، والتي أضحت أكوام من الرماد والخراب، وصوتها الهادر يصدح مرتدًا بالصدى بأنها حتما ستكون ناهضة، قادرة، عائدة إلى نبض عودتها.
انتظروا قليلاً ولا تحترفوا الهروب، لقطر الندى رواية وقصة وحكاية، وصرخة مدوية في حواري الزقاق المُنهار. قالت اجمعوا ركام المدينة وكل الأحياء واصنعوا منها جبلاً عملاقاً وعند التلة العالية سأصعد بدون حجاب، واطلقُ العنان للصرخةِ المدوية وأنا أقف عند ناصية الحقيقة، والركام بأشلاء الموتى والقتلى مجبولاً، سأصرخ بكل الاتجاهات، وسأحرص أن يكون صراخي مرتداً نحو السماء، وسأكون صوت الجثث المقطعة وتلك المحروقة والتي أضحت رمادًا، وسأقول له متسائلة لماذا؟ وكيف؟ وإلى أين؟ اضاقت بنا الدنيا حتى نرحل ببشاعة الرحيل ..؟؟ لا قبور لنا، ولا موتٌ بشري، والأشلاء منتثرة بالضواحي، وقد اصبحت المدينة مكفرّة ومناخاتها طاردة للحياة، ولاحياة مع الموت والموت المتربص بنا يجيء بقسوة، والقتل على الأشهاد، والأرقام بازدياد، والقابعون هناك في أزقةِ ما يسمى بالمشافي ينتظرون موتهم الرحيم، ولا وقت للأنتظار، ستموتون بالوقتِ المحدد لإحتمالِ المشاهد القابع الحاصي للأعداد.
آيها الجبار، الغفار، يا أول الكلام وآخره، أيجبُ أن نموت جوعى؟ والموت لا مهرب منه وإن كنا في أبراجٍ مسيجةٍ عاتيةٍ عالية سيدركنا الموت أينما كنا، نعلمُ ونعرفُ معادلةَ التكوين والرحيل، ونعي حقيقة الفاجعة وكيف ستكون وممن تتشكل وكيف من الممكن أن تكون ولكن لم نتخيل مداهمة الموت لنا وآلامُ الجوعِ تمزقنا، والباحث عن كسرة خبز مرمية هناك على أرصفة الحلال والحرام، يا رب عرش السموات بانتظار الإجابات. وكيف من الممكن أن تأتينا شافية وافية دون أن تكون العصا الغليظة المغلظة مسلطة على الرقاب، ودون فتوى بإخراج الشاكي الباكي من ملةِ التوحيد، فنحن نموت دون طقوس للموتِ وقابض الاوراح هل يحصي الأعداد؟
وأردفت قطر الندى شامخة بكامل هيبتها ومشمشمها، والتفتت نحو اليسار وذات اليمين، وانشدت بالقول الفصيح، آيتها المدينة العائدة رغماً وأرغامًا إلى الحياة، في حسابات الربح والخسارة وحسابات السلطة الممكنة، ولا فرق ما بين الاحتلال وممن يمارس الصمت المقيت بتلك المدن الصاخبة المُنتظرة للشهر الفضيل، والفضل هنا بالصمت المتعمد والسكون والسكوت وممارسة رغد العيش بأكنافها، وتتوالى المفاجآت فقد جاءت ثورة العبيد أخيراً، وانتفض الجمع وقاتلوا الموت وزبانيته الساكتين والمشاهدين والمستمعين، وهذه المرة لم يظهر للعيان سبارتاكوس ليقول كلمته بالجمع ويحاول أن يجمع البسطاء من حوله، ولم يستعرض أمامهم بطولاته أو بالرماح أسقط أعداءه. فقد كان سبارتاكوس يرمي بكلماته منذ مئات السنين في أفئدة المؤمنين بضرورة اسقاط الفرعون والمملوك والأتي الى الحكم لا لشيء إلا لكونه ابن أبيه، والأب والروح القدس والمتربع على عرش أوامر الذبح من الوريدِ للبطنِ المبقورة، واستجمع كل الفلاحين والصيادين وهؤلاء المقهورين والتواقيّن للعيش فوق الأرضِ لا تحتها قوتهم وظنوا أنهم للخوف طاردين واسقطوا كل الجدرانِ والقلاعِ، وكان السقوط مدوياً والعروشُ ما هي إلا كرتونية وهشة كهشاشة الطين. وحينما يسقط الخوف لابد من الردع والقتل بأمرٍ آخر غير الأمر المعهود فجاء النعيق ممن يدعون الطهارة وممن يركضون ويتراكضون خلف أوامر السلطان وأولي الأمر، والأمر بالمعروف يبقى أمراً حصرياً لِولاةٍ يأتون من خلف السراب، والليل أعلن عن حلكةِ سواده حينما اعتلى الكلام واحداً ممن يرى بالتغير واسقاط الطاغية نصراً إلاهياً وإذناً ربانياً لمطاردةِ الفريسةِ تلك التي لا ترتدي حجاباً ومن لا تؤمن بأحقيةِ إرضاع الكبير وأن صوتها عورة ولابد من اعادةِ عصرِ الرقيق والجواري وسبّيّهن جزءٌ من تنصيب الحق وإحقاق البيعة.
وأما الجوع ومن يقضي يومه في سبيلِ العيش وكسرةِ الخبز فهذا جزء من الصراع الحياتي الطبيعي في ظل تصارع الحياة وأن ترى الحفاة العراة فذاك صراع الاضداد ومنطق الاشياء في الخلق والخليقة وحتى يستوي العيشُ فالجوعِ من الأمور البديهيةِ والذاتيةِ بعمقِ الحضارة البشرية، وكل هذا على الأشهاد يا عباد، فذوا الدين الجديد قد صار لهم مكاناً تحت القبابِ ولهم أن يقولوا وبالقوانين الآتية من تحت عباءاتهم أن يتمنطقوا، ويدعون أنما بإرادة الله يتلفظون، وهذا وعد الخالق بأنهم خيرَ أُمةٍ أُخرجت للناس، والناس يصدقون، والصادقون وحدهم هم الضحايا، ومن المصدقين من يوحدون بالربِ والمؤمنين بالعربي العدناني الأمين، وعند هذه اللحظةِ يصبح للواجب منطقٌ آخر وعصر الحريم سيسود، وحينها لابد من مطاردة الفريسة حتى ترتدي الحجاب والكف عن القتال والجهاد والكفاح وأن تستسلم لراعي عروبة اللحظة والتمسك بما يقولونه رعاة الدين الحنيف، وإن كان الطفل في الحواري لا يرتدي حذاء، والمدينة تحاول أن تتنفس وأن لا تلفظ أنفاسها، وقد تكونُ بالرمقِ الأخير للعيش، والقتلُ ما زال سيد الموقف وإن كانوا سادة الهمز واللمز، وسادة العصر وسادة الحريم، وجنرالات النياشين يبشرون باقتراب الهدنة لإلتقاط الأنفاس وإعادةِ تموضعِ القاتل، وحتى يكون للصيامِ معنى، ولركعِ السجدِ مكاناً آمناً بالبيتِ العتيقِ، وللبيتِ ربٌّ يحميه، وللطفلِ الجائعِ المقتولِ بلا حذاءٍ ترابٌ يأويه بين رُكام حجارة المدنية المنهدمة.
وعذرًا يا شاعر الصعاليك، وجدتني أقول وأردد ماذا يطبخُ تجارِ الدين الحنيفِ والجديد في أرض الخليج والبيداء والكنانة على نار جهنم للمدائنِ غيرُ القابلة للحياة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها