هناك نزعة غريبة لدى بعض المحللين والمراقبين للشأن الأفريقي، وخاصة عند تناولهم ظاهرة الانقلابات العسكرية التي تتفشى في القارة السمراء وآخرها انقلابًا النيجر والغابون، الغريب بهؤلاء أنهم يركزون في تناولهم على صراع الدول الكبرى فيما بينها على النفوذ في هذه القارة الغنية بالثروات، دون النظر للأزمات التي تعيشها هذه الدول وشعوبها، وعدم إعطاء هذه الأزمات الإضاءة الكافية. لا شك أن الصراع بين الدول الكبرى هو العامل الأكثر بروزًا وتأثيرًا في المشهد الكبير، لكن ومما يتضح، أن الانقلابات هي تعبير عن أزمات داخلية معقدة ومزمنة، وأزمات متداخلة في أفريقيا عمومًا.
أفريقيا ومنذ أكثر من قرنين وهي ساحة لتنافس الدول الكبرى، وفي هذا المجال تعرضت القارة وشعوبها إلى أبشع الجرائم وأبشع استغلال فقد حولوا الأفارقة إلى عبيد داخل دولهم، وفي العالم، ونهبوا ثرواتها وخربوا البيئة. وتناوبت الدول حسب موازين القوى في كل مرحلة، فرنسا وبريطانيا، وكانت البرتغال وإسبانيا وهولندا ومن ثم ألمانيا وإيطاليا.
وبعد الحرب العالمية الثانية، ومع النظام الدولي الجديد ومعه الحرب الباردة، ظهر القطبان الجديدان الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي كقوتين تتنافسان في أفريقيا، وكان نفوذ مصر ويوغوسلافيا كقوى إقليمية، وبعد إنهيار الاتحاد السوفييتي برز اللاعب الصيني وازداد تأثيرًا في العقد الأخير، ومؤخرًا وفي السنوات الأخيرة عادت روسيا إلى المشهد عبر شركة فاغنر.
في محصلة كل هذه المخاضات، وكل الصراعات والتنافسات، خرجت القارة بدول وحدود مشوهة، وتركت القبائل ممزقة بين هذه الدول. قبائل وجدت نفسها موزعة أحيانًا على ثلاث أو أربع دول وربما أكثر وأصبحت مصدرًا للتوتر والصراعات. كما خلقت أنظمة ومؤسسات مشوهة تابعة لها، أكانت الأنظمة "ديمقراطية" أو عسكرية أو أي شيء آخر هي في نهاية الأمر تتحول إلى عصابة تتقاسم خيرات وثروات البلاد مع شركات الدول الكبرى أو معها مباشرة، أما الشعوب فبقيت تعيش في الفقر والبطالة والجهل.
فالأزمات في أفريقيا مزمنة متراكمة معقدة، والانقلابات ماهي إلا أحد إفرازات هذه الأزمات وجزء منها، والدول الكبرى لا ترى في المعادلة إلا الثروات ولا يهمها من يحكم، عائلة باسم الديمقراطية، أو عشيرة أو دكتاتور مدني أو عسكري المهم الثروة. عندما ندقق في التفاصيل كل انقلاب، ونبحث عن خلفياته العميقة نلاحظ أنه يعود لمجموعة عوامل، قبلية وأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وفوق كل ذلك تنافس الدول الكبرى التي تفاقم الأزمات وتستخدمها لما فيها مصالحها فتارة ترجح الكفة لصالح هذا الطرف، وأخرى لذاك ولغيره. ولكن وبعد أكثر من قرنين تبقى أفريقيا غارقة في أزماتها.
صحيح أن الدول الاستعمارية الغربية هي من يتحمل مسؤولية، ومهما حاولت تجميل أدوارها الجديدة في أفريقيا، فهي اليوم تقلع الشوك الذي زرعته في أفريقيا، ولكن المشهد الدرامي والمأساوي في أفريقيا آن له أن ينتهي وتبدأ شعوب القارة تحكم نفسها بنفسها وتتحكم بثرواتها وتتعاون مع الدول على قدم المساواة. المطلوب أن تكف جميع الدول الكبرى في النظر لأفريقيا بأنها عبارة عن منجم ذهب أو منجم يورانيوم، أفريقيا شعوب وحضارة وهي أصل الإنسان العاقل والذي تفرعت منه جميع الشعوب الأخرى. من الواضح أن أفريقيا قد تحولت إلى ساحة صراع محتدم. وربما تشعل حريقًا واسعًا يحرق أصابع اللاعبين جميعا.
السؤال القديم الجديد، له الجواب القديم الجديد، الشعوب فقط، لا أحد سوى الشعوب هنا في المنطقة العربية وهناك في افريقيا، تحرير الإرادات هو طريق الاستقلال الحقيقي، ولكن هل هذا ممكن وضمن الآجال المنظورة الجواب لا، لأن كل ما يحصل حولنا في العالم هو نتيجة لصراع الكبار والذي تدفع ثمنه الشعوب، وهذا قد يستمر مع البشرية لفترات طويلة قادمة، إلا أن التاريخ علمنا أن لا أحد يسود للأبد.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها