أمشي في السّادسة صباحًا على الشّاطئ الجنوبيّ للمدينة القديمة الصّغيرة الجميلة وكرمُ الله، أنفُ الغزالِ أمامي، والسّور العتيق ظهري وأرى ما أريد أن أرى.
يكتب البحر قبيلَ الفجر على سيفه ملحمةَ الحياةِ ويمحوها بعد الشّروق، ولا أدري إذا ما كانت النّوارس من قرّائه، ولكنّني بعدما قرأتُ ملحمة جلجاميش ورسالة الغفران وجحيم دانتي ودون كيخوته اجتهدت لأقرأ ما خطّه البحر بمدادٍ سرمديّ على الرّمال، لا بداية لكلماته ولا نهاية لها، جزءٌ من كلمات الخالق تعالى ومن دموع قلمه، يا ربّ يا خالقي! امنحني القدرةَ على قراءة الرّمل لعلّه يقول لي متى يحوّل قابيل سيفه محراثًا كي ينام الحمامُ مرتاحًا في أبراجه في النّقب والمثّلث والجليل والمدن السّاحليّة.
حذّرني هذا الصّباح بمحبّةٍ وتقديرٍ صديقي فضيلة القاضّي الشّرعيّ من غدر البحر عندما رأى أنّني لا أجيد العوم فلامس الخوف قلبي على الرّغم من أنّني أمشي منذ سنوات على الشّاطئ ثمّ أعومُ عَومَ من يمحو الكلمة الأولى من السّطر الأوّل من أبجديّة العوم، فتساءلتُ لماذا يزرع الشّيوخ والكهنة الخوف في قلوب عباد الله منذ قطف جدّنا آدم التّفاحة وقدّمها لضلعه على الرّغم من أنّ الخالق تعالى منحنا الحبّ والأمن والأشجار والأزهار والأنهار والنّدى والبحر والضّلع الجميل.
دعتني تلميذتي النّجيبةُ مُتَكلّمًا مساءَ الخميس، خاتمة شهر آب 2023، في ساحة حديقة جدّتنا حوّاء، الّتي تستريح على أنف الغزال، محتضنةً آلاف الشّابات والشّبان الّذين يسيرون في مسيرة التّوابيت ويغنّون "بكتب اسمك يا بلادي" فيبعثون الحياة في البشر والشّجر والحجر، ويعيدون الشّباب في عروق جسدي الّذي صادق داء السّكرّيّ وداء ضغط الدّم العالي رافضًا وهن الشّيخوخة، متشبثًّا بزهرة العمر، وشاطبًا كلمة "سئمتُ" من معلّقة زهير بن أبي سلمى.
طالعةً من خشب التّوابيت سمعتُ صرخة الحياة وسمعتُ عويل الأمّهات الثّواكل وبكاء الأطفال اليتامى وغناء حادي القافلة "نحبّ الحياة إذا ما استطعنا اليها سبيلا" وإصرارنا على أنّ "على هذه الأرض، سيدّة الأرض ما يستحقّ الحياة".
يزرع أعداء الحياةِ فسائل الزّقّومِ وبذور الشّوكِ وبذور اليأس في حقولنا كي يحوّلوها الى صحارى وفيافٍ فنستأصلها بأناملنا وشفاهنا ورموشنا ونرميها على مزبلة أعداء الحياة، وأعداء الورد وأعداء النّدى، ونحرث الأرض ونزرعها قمحًا نورسيًّا ووردًا جوريًا.
نحن شعبٌ ذو سبعة أرواح، دفن موتاه في النّكبة وفي النّكسة وفي حريق القّاهرة وفي اجتياح بغداد وفي حصار دمشق وفي خنقِ جرس القيامة وفي أسر المسجد الأقصى ووقف ماردًا يغنّي "مويل الهوى، يمّا مويليا، ضرب الخناجر ولا حكم النّذل فيّا".
أمشي صباحًا على الشّاطئ الجنوبيّ لأقدم المدن وأصغر المدن وأجمل المدن، أمشي بُعَيدَ نداء "الصّلاة خيرٌ من النّوم"، وهي "طالعة من بيت أبوها" من مسجد الجزّار، وأفكُّ حروف ما كتبه قلم البحرِ، ولا بدّ من أن أقرأ على الرّمل الذّهبيّ: نحن نحبّ الحياة، يا بحر يا بحرنا نحن نحبّ الحياة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها