الحارث الحصني

"سرطانٌ أصاب مراعينا". لا يمكن وصف الحال هذه الأيام في المناطق الرعوية القريبة من عين الحلوة بالأغوار الشمالية، بأدق من هذه الجملة التي قالها مهيب دراغمة، أحد سكان المنطقة.

حاول دراغمة أن ينقل المشهد كاملا، عندما قال إنه "نسي" المناطق الرعوية الشرقية، بعد إغلاق المستوطنين لها.

ويعني هذا، ترك مكان رعوي خصب والبحث عن مراعٍ أخرى، أن فسحة البقاء للفلسطيني بدأت تضيق.

قال دراغمة: "سيجوا البلاد كلها" بعد أيام أمضاها المستوطنون في تسييج المنطقة الممتدة من عين الحلوة، وصولا إلى الفارسية.

يقول رئيس مجلس قروي المالح والمضارب البدوية مهدي دراغمة: "سيج المستوطنون حتى اللحظة أغلب المراعي من عين الحلوة حتى الطريق السريعة شرقا، بعرض تراوح بين 5-15 كيلومترا، وامتدت المسافة من مستوطنة "ميخولا" المقامة على أراضي المواطنين شمالا، حتى الجنوب لـ15 كيلومترا تقريبا، وبناءً على هذا، تقدر المساحة الإجمالية للمراعي المغلقة بــ50 ألف دونم.

ووسط كل هذا الإجرام الاستيطاني بحق المراعي، تجد أن قرابة 20 عائلة فلسطينية في عين الحلوة والمناطق القريبة، تمتلك قرابة 1300 رأس بقر، و1500 رأس ماشية، وهذا بحسب إحصاءات رئيس المجلس، احتمالات مفزعة.

والعرض الذي يقدمه مستوطنون باستمرار على أهالي المنطقة يؤكد ذلك، ففي شباط/ فبراير المنصرم، عرض المستوطنون للمرة الأولى على السكان بيع أبقارهم وترك المنطقة، لكنهم رفضوا.

يؤكد مهيب: "قبل مدة عرضوا مقابل رأس البقر الواحد 6 آلاف شيقل، لكني رفضت بشكل قطعي".

ومع رفض تلك العروض، أصبحت الأمور بالنسبة إلى المواطنين أوضح وهي "بيع أبقارهم وترك المنطقة، أو إغلاق المستوطنين كل شيء أمامهم".

وعلى امتداد سنوات، كانت السفوح الشرقية للشريط الغوري، هي الوجهة الرئيسة لعائلة دراغمة في رعي مواشيها، وبسبب تغير جذري حصل على المكان في السنوات الماضية، صارت وجهتها لرعي مواشيها غربا.

وهناك ليست المراعي أفضل حالا. قال مهيب: "نحن نرعى اليوم في أماكن أعلن الاحتلال أنها للتدريبات العسكرية. رعي بين الحياة والموت".

وطبيعة هذه الأراضي لا تناسب قطعان الأبقار التي تحتاج إلى مناطق رعوية مفتوحة وآمنة، مقارنة بالتي كانت شرقا.

ولا تحتاج المقارنة بين طبيعة المكانين سوى خبرة الرجل الممتدة لأكثر من 20 عاما في مجال رعي البقر.

ويتساءل المواطنون بشكل حقيقي: أين نذهب بأنفسنا ومواشينا بعد كل ما جرى في المناطق؟!

وتمتد الأغوار الفلسطينية من بيسان حتى صفد شمالا، ومن عين جدي حتى النقب جنوبا، ومن منتصف نهر الأردن حتى السفوح الشرقية للضفة الغربية غربا. وتبلغ المساحة الإجمالية لها 720 ألف دونم، ورغم كل هذه المساحة الممتدة، إلا أن فرصة استمرار التواجد الفلسطيني فيها ضئيلة.

منذ عشرات السنين، تتوالى أجيال من عائلة دراغمة نفسها في مهنة رعي الأبقار، لكن تلك المهنة بدأت تتلاشى من الأغوار تدريجيا بفعل الاستيطان الرعوي المنتشر.

وما يثير الخوف فعلا، أن جل المستوطنين في البؤر الاستيطانية في الأغوار هم رعاة أبقار.

مع بدء ظهور البؤر الاستيطانية في الأغوار، اختلفت نظم تعامل الفلسطينيين مع رعي الماشية في معظم المناطق الغورية، ففي الوقت الذي كانت فيه قطعان البقر تسرح وحدها ليلا، صار مهيب دراغمة يرافقها في الظلام.

يقول الرجل: "ننام ليلا بين الموت".

والرجل ليس جديد عهد على مثل هذه الأوضاع، ويمكن تصنيفه من الذين يحملون سجلا زاخرا من اعتداءات المستوطنين بحقه.

العديد من سكان المنطقة يصنفون ضمن تلك الفئة.

حقوقيون يرون أن الحال في الأغوار الشمالية بالعموم صار لا يطاق.

يحاول المواطنون في المنطقة إيصال حجم الكارثة التي تتربص بهم من خلال شهادات حية ومتواترة.

ولا يحتاج الأمر شيئا أكثر من إدراك أن أصحاب الماشية في المنطقة، فقدوا جل الأراضي الرعوية التي كانت ممولءة بالطعام للماشية مجانا، وموردا مهما من موا!د المياه التي كانت تُستخدم لري مواشيهم.

يشير مهيب إلى أنه: "عندما تأتي الأبقار من المراعي الغربية، تكون عطشى، وفي كثير من الأوقات عندما ترد عين الحلوة يبدأ المستوطنون برميها بالحجارة".

تقول وثيقة حقوقية نُشرت على الموقع الإلكتروني لمؤسسة "كرم نابوت" الحقوقية تحت عنوان:

"هذه لنا وهذه أيضا لنا"، سياسة إسرائيل الاستيطانية في الضفة الغربية: "كذلك تشجع الدولة اليهود على إقامة بؤر استيطانية قروية جديدة في الضفة الغربية والاستيلاء من خلالها على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والمراعي الفلسطينية".

وحسب الدراسة: "أقيمت خلال العقد الأخير نحو 40 بؤرة استيطانية قروية، استولت فعلياً على عشرات آلاف الدونمات".