جميل ضبابات
كل عدة قرون، تبدأ مرحلة جديدة من تغيير هوية سبسطية، وكانت روما القديمة واحدة من الإمبراطوريات العظمى التي ساهمت في ذلك التغيير، بإدخالها إلى سلسلة المدن العظمى التي يسكنها القادة وتُصكّ فيها العملة.
يشير سامر الشاعر إلى أكثر تلك التغييرات سطوعا وظلاما في تاريخ بلدته؛ فعندما يقف عند نهاية ساحة كشكه السياحي ويخطو باتجاه الشمال خطوة واحدة، يدخل إلى مركز حكم الإمبراطورية الأقوى في ذلك الوقت "روما".
وعندما ينظر إلى الخلف قليلا، يرى آليات عسكرية إسرائيلية تقف عند الطرف الآخر من الساحة، فيحمل ذلك مستقبلا أسود يتهدد بلدته.
فالخطوة الواحدة في سبسطية تعني الانتقال من عصر إلى عصر، ومن واقع سياسي إلى آخر. فبين روما القديمة وبين فلسطين الحديثة مجرد خطوة قدم فعلية واحدة، وبين منطقتي "ج" و"ب" حسب تقسيمات اتفاقيات أوسلو أيضا خطوة.
بالنسبة إليه، فإن هذه الطريقة في النظر إلى الماضي والحاضر تطرح الآن تحديات كبيرة، إذ تحاول سلطات الاحتلال السيطرة على ما تبقى من فضاء عام في البلدة الواقعة على تلة خضراء شمال نابلس.
لطالما كانت سبسطية مسرحا لأحداث تاريخية قاسية وكبيرة منذ 3500 عام. ففي عام 200م، أصبحت مدينة مركزية صُكّت فيها عملة خاصة.
يقول الشاعر وهو أحد مشغلي الأكشاك السياحية: إن "البلدة على وشك أن تشهد حدثا جديدا".
يردد رئيس البلدية محمد عازم المعنى ذاته الذي يقول: إن مجلس المستوطنات اليهودية بدأ بتنفيذ خطته في السيطرة على المواقع الأثرية في سبسطية.
وكانت حكومة الاحتلال الإسرائيلي اليمينية المتطرفة، قد أخذت قرارا بإغلاق المنطقة الأثرية التي تقع في مركز سبسطية ومن ضمنها ساحة "البازليكا" مركز المدينة الرومانية.
عندما داهمت قوات عسكرية وأخرى مدنية وسط البلدة، حدث ما كان متوقعا؛ حيث دخلوا عبر حقول الزيتون باتجاه المربعات الأثرية التي تعود إلى حقب زمنية بعضها قبل الميلاد بألفي عام.
واقفا بين مجموعة من أهالي البلدة، يقول الشاعر: إن المستقبل في بلدته "ذاهب إلى المجهول".
ويتحدث سكان البلدة عن الاحتمالات المتعددة لعزل المناطق الأثرية، سواء من خلال نقاط عسكرية أو أسيجة وجدران.
وإذا ما وُضع جدار بأي شكل من الأشكال، فإن كشك الشاعر سيصبح الحد الفاصل ليس بين المدينة الرومانية والفلسطينية وحسب، وإنما يضع حدود حرية الحركة لسكان البلدة والزوار مستقبلا.
يقول رئيس البلدية: "الوضع التاريخي للبلدة سيتغير(...) يريدون-يقصد حكومة الاحتلال- فصل الماضي عن الحاضر".
حتى اليوم، يستطيع سكان البلدة والزوار الوصول إلى المناطق الأثرية بحرية في حال عدم تواجد جيش الاحتلال.
يعرف الكثيرون من سكان البلدة أن المستقبل يحمل تغييرا كبيرا في بلدتهم التاريخية، فالوصول السلس إلى حقول الزيتون قد يكون غير ممكن في الأشهر القادمة.
من على بعد، تبدو البلدة وادعة يغطيها غطاء أخضر، لكن مجرد الاقتراب من عمقها يُظهر عمق الخوف من تنفيذ الخطة الإسرائيلية الجديدة.
في الواقع، كانت سبسطية على مدار القرن الماضي مربعا للحفريات الأثرية التي دشنها علماء الآثار الغربيون قبل أكثر من قرن.
وعلى الرغم من أن هويات متعددة واضحة للنسخ من المدينة القديمة تتنوع حسب الممالك التي سيطرت عليها، إلا أن علماء الآثار ينكرون الروايات الإسرائيلية عن كونها يهودية، اعتمادا على وجود أحد القصور في تلك المنطقة.
وقال الشاعر الذي كان يقف عند الحد الفاصل بين المملكة الرومانية وحدود المنطقة "ب" حسب اتفاقيات أوسلو: "هذه منطقة لا استقرار فيها (..) الأمور مفتوحة على المجهول".
"عمري 48 عاما، ولم أشعر طيلة كل السنوات بالاستقرار". أضاف الرجل الذي كان يستعد لاستقبال بعض السياح من جنوب شرق آسيا.
قبل وصول حافلتين تُقلّان السياح حدث أمر دفع بعض أهالي البلدة إلى التجمع والانتظار.
ركض صبيان عبر كروم الزيتون نحو المدينة الرومانية؛ وكان الصبي الأكبر يشير إلى أن قوة عسكرية قادمة، فيما الأصغر وصل وهو يلهث إلى مجموعة من باعة الأكشاك الذين ينتظرون قدوم السياح، واستراح هناك وتحدث عن عدد غير محدد من آليات الاحتلال العسكرية.
وكما اعتقد الباعة والزوار، فإن هناك جولة جديدة من هجوم جيش الاحتلال على بلدتهم التاريخية.
كان ذلك قبل انتصاف النهار، وكان الباعة الذين ينتظرون قدوم السياح قد بدأوا عملهم للتو، بعد أيام على قرار الحكومة الإسرائيلية إغلاق المناطق الأثرية في البلدة.
ترتبط مواسم السياحة بقدرة السياح على الوصول إلى مدينة نابلس، لكن منذ عام عندما بدأ الاحتلال الإسرائيلي بفرض إجراءات عسكرية مشددة حول المدينة، تراجعت أعداد السياح الوافدين إلى سبسطية بشكل كبير.
منذ سنوات قليلة، سعى المزارع مالك مخالفة إلى إعطاء الحركة السياحية لونا جديدا، فأحضر عددا من الجمال لتشغيلها، فيستغلها السياح لالتقاط تلك الصورة التي أصبحت مشهورة بوجود الأعمدة الرومانية في خلفيتها.
بينما تسير الجمال وهي محملة بالزوار عند الخط الفاصل بين الأعمدة والساحة المجاورة الذين يلتقطون صورة أصبحت مألوفة في سبسطية.
هذه هي الطريقة التي يقيس فيها مخالفة نشاط السياحة، لذلك يقول: إن السياحة هذه الأيام تلفظ أنفاسها الأخيرة، فيأتي بعض السياح مسرعين ويغادرون مسرعين.
كان هذا النهار مشوشا بالنسبة إلى مخالفة وغيره من مشغلي الأكشاك والمطاعم، فما إن استقدم جملين من جماله الأربعة التي عادة ما تُشاهَد متوقفة أمام صف الأعمدة، حتى اقتحمت قوات الاحتلال المكان تزامنا مع دخول السياح، وأحالت الفضاء العام الروماني واليوناني والفلسطيني إلى فوضى عارمة.
عندما انتصف النهار، كانت ساحة المحكمة الرومانية قد تحولت إلى ثكنة عسكرية.
وانسحب مخالفة وجملان من جماله الثلاثة من المكان.
مع تطور حركة السياحة المحلية بعد اتفاقيات أوسلو، سعى بعض أهالي المنطقة إلى افتتاح أكشاك ومطاعم لاستقبال السياح، منهم ناهض عقل الذي يطل مطعمه على الأعمدة والساحة.
بدأت قصة عقل تأخذ طابعا تراجيديا عندما هدم الاحتلال مطعمه لأول مرة عام 2017 ثم في 2019.
يقول عقل: إن "الأمر هذه المرة مختلف. هذه المرة يريدون أخذ المنطقة برمتها".
عقل وأربعة رجال آخرين منهم الشاعر يتداولون تحت مظلات تقي أشعة الشمس مستقبل بلدتهم في ضوء القرار الإسرائيلي الجديد. بالنسبة إلى المؤرخين الفلسطينيين، فإن سبسطية لم تكن رائدة مدن العصر الحديدي فقط ببناء القصور فيها، إنما أصبحت في العصور اللاحقة درة تاج جبال نابلس، ولاحقا حقلا كبيرا للمشمش والزيتون في العصور الحاضرة.
ضرغام الفارس، مدير مواقع الآثار في الشمال، يقول: "الشعب الفلسطيني اليوم هو امتداد لكل ما شهدته فلسطين من حضارات وأحداث، وأي تغيير جديد يقدم عليه الاحتلال لن يكون مؤقتا. هذه تجربتنا معهم (..) يسعَون إلى تغيير هوية التاريخ وتدمير السياحة ونشر الخوف".
تتناثر الأعمدة الرومانية في أنحاء البلدة، ويمكن مشاهدة بعضها بين حقول الزيتون، لكن حدود المدينة الغربية تنتهي عند السور الروماني، ومن هناك يراقب الأولاد جيش الاحتلال عندما يقتحم بلدتهم.
سبسطية بالمفهوم العام جميعها موقع أثري، لكن بالنسبة إلى علماء الآثار، فإن بقايا الحضارة اليونانية مثل البرج الهلنستي والمدرج، سيقعان ضمن المنطقة التي سيغلقها الاحتلال.
يقول الفارس: إن الكثير من بقايا منتجات تلك الحضارات نجت عبر آلاف السنين، إلا أننا سنفقدها عندما تنفذ الخطة الإسرائيلية.
ويضيف: أن استمرار الحياة عبر آلاف السنين وسط سقوط إمبراطوريات وصعود أخرى، تبدو قصة لا تصدق في سبسطية. سرعان ما يتبدد التفكير في التاريخ بالنسبة إلى أهالي البلدة، مجرد التفكير في هوية سبسطية المستقبلية بعد تنفيذ المشروع الاستيطاني الجديد.
استمر الاحتلال لسبسطية منذ عام 1967، وتخلله سنوات قليلة من الهدوء أعقبت اتفاقيات أوسلو، لكن الفترة الأخيرة تُذكّر بالأيام الأولى لاحتلال البلدة، عندما بدأوا بـ"النبش" عن الآثار.
في بداية القرن الماضي، نقّبت كاثلين كنيون وهي عالمة آثار بريطانية مختصة في منطقة الهلال الخصيب، في مواقع عدة في فلسطين عن بعض أهم العلامات الواضحة لإمبراطوريات العالم القديمة.
تُجري اليوم سلطات الاحتلال عمليات حفر ونبش للمنطقة، وفي كل مرة يتوقع الأهالي اتباع الإسرائيليين للنمط المعتاد، إذ يدخل خبراء الآثار تحت حماية الجيش الإسرائيلي، فينبشون الآثار وينقلونها بحماية عسكرية.
أمس، شرعوا بعملية حفر في المنطقة الشمالية من البلدة كما أشار أحد موظفي الآثار الفلسطينيين، ويعتقد أهالي البلدة أن المدنيين المسلحين الملثمين الذين رافقوا الجيش (اليوم) هم من مختصي الآثار الإسرائيليين.
يظهر التاريخ المبكر لسبسطية على وجه الأرض بشكل واضح، فهناك بقايا القصور وأيضا بقايا حكايات الأنبياء والقديسين والملوك الظالمين مثل قصة النبي يحيى الذي يُعتقد أن رأسه المقطوع نُقل إلى سبسطية.
عندما دخلت الآليات العسكرية الإسرائيلية ساحة البازليكا الرومانية، توقفت هناك قبل أن يذهب الجنود إلى تلك المناطق التي يخشى أهالي البلدة أنهم سيرونها للأيام الأخيرة قبل إغلاقها.
"كانت المملكة وثنية كنعانية"، يقول الفارس، لكنها "الآن تخضع للتخريب والتغيير من الإسرائيليين (..) أهمية سبسطية التاريخية تتعدى جغرافية فلسطين، فللمدينة القديمة ارتباطات قوية بالإمبراطوريات القديمة وملوكها".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها