القضية الفلسطينية، قضية العصر الحديث، وآخر قضايا حركات التحرر تعقيداً واستعصاءً ليس بسبب قوة إسرائيل الكولونيالية، ولا لأن الشعب العربي الفلسطيني، صاحب الأرض والقضية مستسلم، ولا يدافع عن حقوقه السياسية والقانونية والثقافية، لا بل هو من أكثر شعوب الأرض حيوية، وانغماسا في الكفاح التحرري الوطني ومنذ بدايات القرن العشرين، وحتى يوم الدنيا هذا ما زال يحمل لواء الكفاح تحت راية قيادته الوطنية، قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن نتاج إصرار الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها في الإقليم على رفضهم منح الفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم السياسية، وعدم الاعتراف بدولتهم، التي أقروها في 1947 وفق قرار التقسيم الدولي 181، وما تلاه من قرارات تجاوزت الألف وآخرها القرار 2334 الصادر في 23 كانون أول/ ديسمبر 2016.
وللأهمية العظيمة التي تحتلها القضية الفلسطينية عربيا وعالميا تستحوذ على اهتمام الأشقاء والأصدقاء والأعداء أيضا لجهة دعمهم لدولة الاستعمار الإسرائيلية، ويرحب أبناء الشعب وقيادتهم بكل جهد فكري وسياسي واقتصادي وثقافي وتضامني مع نضالهم ضد المحتلين الغزاة. ولكن لا القيادة الفلسطينية ولا أبناء الشعب بمختلف مشاربهم، باستثناء العملاء والجواسيس والأدوات الوظيفية التي زرعت في أوساط الشعب يقبلون بأي تدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني، ومن هنا جاء التأكيد المستمر على "استقلالية القرار الوطني"، ورفض الوصاية من كائن من كان عربيا أو إسلاميا أو إمبرياليا.
ما تقدم له عميق الصلة بما حمله مقال محمد صالح المسفر القطري بعنوان "أناشدك سيادة الرئيس أن تتنحى من منصبك فورا" من ترهات وأكاذيب وتحامل وتحريض معلن ضد شخص الرئيس محمود عباس المنشور في "صحيفة الشرق القطرية" يوم الأربعاء الماضي الموافق 12 ابريل الحالي (2023).
ولا أضيف جديدا للقارئ المتابع عن خلفية المسفر السياسية، فهو المقرب من الإخوان المسلمين، وأحد المطبلين لهم، وصدى صوتهم الناعق دوما بما تبتغيه وتعمل من أجله الجماعة وأسيادها في واشنطن ولندن وبرلين، رغم ادعائه أنه "مفكر قومي"، بيد أن الحقيقة تؤكد، أنه بعيد بعد الأرض عن السماء عن الفكر القومي، ولا يمت بصلة للمشروع القومي العربي النهضوي. لا بل هو في الخندق المتصادم مع المشروع القومي.
وقبل أن أفند مزاعمه وأكاذيبه، لو كان حريصا على الشعب العربي الفلسطيني وعلى مشروعه الوطني، لكان كتب عن ضرورة طي صفحة الانقلاب الأسود، الذي تقوده حركة حماس، فرع الإخوان الفلسطيني من 16 عاما خلت، وكان دعا للوحدة الوطنية لمواجهة التحديات الصهيوأميركية، ولنشر مقالاً عن حكومة الترويكا الفاشية بزعامة نتنياهو، وعن اقتحامات المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وعن منع الإسرائيليين أبناء الشعب وكل أتباع الديانة المسيحية من تأدية شعائرهم الدينية في سبت النور، والاحتفال بعيد قيامة المسيح، عليه السلام. لكن هذه ليست أولوياته، ولا تقع ضمن أجندته، وإن كتب عنها، فسيكتب مقالات سطحية وبائسة ورخيصة، وتشبه خلفيته السياسية. كما أن ما دونه عن "تنحي رئيس منظمة التحرير" فيه خروج عن المنطق، وتجاوز للخطوط الحمر، وإسفاف وابتذال فاق الحد.
أما موضوع التنحي من عدمه، فهذا الشأن فلسطيني خالص. ولا أعرف إن كان المسفر يعلم، أن الفلسطينيين ليسوا من أنصار شعار "إلى الأبد" لهذا الزعيم أو ذاك الرئيس، لإيمانهم بصناديق الاقتراع ودورها في تحديد خياراتهم، أضف إلى أن الشعب الفلسطيني ورئيسه عباس يؤمنون إيمانا عميقا بالديمقراطية، وأحد معالمها الانتخابات، والتي تطال المؤسسات والقطاعات النقابية والمهنية وصولاً للانتخابات البرلمانية والرئاسية. وتأخر استحقاقها ناتج عن رفض إسرائيل إجراءها في العاصمة الأبدية القدس، وليس رفضاً لها، أو تهرباً من استحقاقها. لكنها ستبقى مطلباً وطنياً حتى ترجمتها وإجراءها.
ومع ذلك الشعب الفلسطيني أسوة بالشعوب جميعاً يفخر بقياداته التاريخية ورموزه النضالية وشهدائه وجنرالات الأسر في سجون الاستعمار الاسرائيلي، بغض النظر إن كانت في مركز القرار أم خارجه، لأنها حملت راية الثورة، ودافعت عن مصالح وحقوق الشعب، وما زالت تدافع وفق شروط الواقع القائم.
ويعلم المسفر أن الرئيس أبو مازن يزور الدوحة باستمرار، ويلتقي قيادتها، فهل رآه ذات زيارة يتعثر في مشيته، أو سمعه وهو يتحدث ليقول، إن ذاكرته ذبلت؟ ألا يعلم الكاتب حليف الإخوان، أن ذاكرة عباس أحدّ من السيف؟! فضلاً عن ذلك، فهذا شأن خاص بشخص الرئيس، ومن المعيب والغباء التعرض للجوانب الشخصية، لأن فيها قدحا وذما وإهانة، وهو ما يتطلب ملاحقته في المحاكم القطرية.
وأما عُمر الرئيس أطال الله في عمره، وأدعو أنا شخصيا وكل من يعرف الواقع الفلسطيني، أن يطيل الله عمره، لأنه بوصلة الأمان، والضامن للدفاع عن الثوابت الوطنية، والرافض للاستسلام لخيار الأعداء، والمتمسك بمصالح الشعب العليا. لهذا تواصل آلة الإعلام الصهيوأميركية والإخوانية ومن لف لفهم التحريض على شخص الرئيس عباس، ويجيشون ذبابهم الإلكتروني وغير الإلكتروني لتهشيم صورته ومكانته الشخصية والوطنية والقومية، ولتأبيد الانقسام.
نعم الرئيس إنسان، أسوة ببني الانسان يصيب ويخطئ، لكنه لا يحيد قيد أنملة عن الحقوق السياسية والقانونية للشعب، ولديه الشجاعة والكفاءة والاقتدار ليقول كلمته أمام أباطرة أميركا وعلى الملأ دون أن يرفّ له جفن أسوة برفيق دربه الراحل الرمز ياسر عرفات. والحديث عن المستوطنات وتوسعها، فهذه إسرائيل المارقة والخارجة على القانون، والمدعومة بثقل الولايات المتحدة التي تحميها من الملاحقة القانونية والسياسية، والعكس صحيح، فهي تلاحق الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية دون تردد، وآخرها منع مجلس الأمن الأسبوع الماضي من إصدار بيان لإدانة اقتحامات عصابات المستعمرين للأقصى. وأما عن الأموال والدعم العربي عموماً والخليجي خصوصاً، فأنا أدعوه ليسأل زعماء العرب وخاصة حكام الخليج، منذ متى لم يدفعوا فلساً أبيض، وكم صندوقاً للقدس وافقوا على إنشائه، ولم يصبّوا فيه بنساً أو درهماً.
وأما عن مقاومة الشعب ومظاهراته الشعبية، لا أحد يمنعها، وحق التظاهر مكفول ومَصون وفق القانون والنظام الأساسي، باستثناء بعض المظاهرات التي يروّج لها المغرضون والتحريضيون أمثال جماعة حماس وحزب التحرير، الذين يهدفون للتخريب، وإشاعة الفوضى والفلتان الأمني، ويمارسون التحريض الرخيص التكفيري والتخويني، والإساءة لأهداف ومصالح الشعب الوطنية، فهؤلاء يروجون لبضاعتهم الفاسدة، لخدمة أسيادهم وأجنداتهم الإقليمية والعالمية.
مجدداً أدعوك للكفِّ عن الابتذال، وترخيص الذات، ومراجعة نفسك، إن كانت لك صلة ما بما تدّعيه، من أنك "قومي".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها