هناك تحرك عربي لتجاوز الأزمات والعودة إلى لغة الحوار والتضامن، أبرز محطات هذا التحرك هو محاولات السعودية لإعادة سوريا للصف العربي، وإيجاد حلول لأزمات اليمن وليبيا. ويأتي هذا التحرك بعد أكثر من عقد من الزمان، وبالتحديد منذ ثورات الربيع العربي، والتي مع الأسف تآمر خلالها العرب على بعضهم البعض بما يكفي لإحداث خراب كبير وعميق الأثر، دول عربية تم تدميرها وتمزيقها أو إفلاسها اقتصاديا، وكان بعض العرب شريكا في تدميرها بشكل مباشر، الأمر الذي أضعف الموقف العربي وشجّع الأطراف الإقليمية والدولية للنهش والتوسع على حساب الجسد العربي.
لا يمكن الجزم أننا أمام صحوة عربية أم أن الضرورات فرضت مثل هذه التحركات بهدف التخفيف من وقع الأزمات وليس إيجاد حلول جذرية لها، وخلال عقد مزقت الأمة نفسها بنفسها ولا يمكن أن نلعن الظلام ونلوم الآخرين في وقت شارك البعض منا، وخاصة الدول الأكثر غِنىً، في تمزيق دول عربية شقيقة، فقد مولّ بعض هؤلاء الأغنياء المخططات الخارجية لإضعاف أمتهم العربية.
وليس بالزمن البعيد لكي لا نتذكر كيف تنافست الدول الغنية فيما بينها في تمويل الأطراف المحلية وإثارة الفتن والعداوات الى أن وصل الأمر إلى واقع عربي من الصعب إصلاحه. نحن في فلسطين عشنا هذه التجربة المريرة وربما بدأ التخريب من عندنا أولا، عندما مولت إحدى الدول الخليحية الغنية بالغاز حماس وشجعتها على انقلابها العسكري في قطاع غزة العام 2007، وهو ما كان يتمنى حدوثه شارون ويخطط له مع انسحابه أحادي الجانب من غزة العام 2005، ما أحدث انقساماً خطيراً أضعف الموقف الفلسطيني وأضعف قيادته أمام العدو الإسرائيلي، حافظت هذه الدولة على دعمها لحماس وعبر الموساد الإسرائيلي كي يستمر الانقسام الفلسطيني ويتعمق.
دولة خليجية أخرى، كانت تطمح للعب دور إقليمي ودولي. مَوَّلَتْ هي الأخرى وشجعت انشقاقا في حركة فتح، ما أدخل الساحة الفلسطينية في معارك جانبية على حساب المعركة الأساسية مع الاحتلال لأكثر من عقد من الزمان ولا تزال هذه المعارك مستمرة ويتم تغذيتها من قبل الدول ذاتها. كل هذا التآمر على الشعب الفلسطيني جاء بالتزامن مع وقف المساعدات العربية للسلطة الفلسطينية، وعدم تنفيذ قرارات القمم العربية بتوفير شبكة أمان مالية للسلطة الفلسطينية كي يكون بإمكانها الصمود أمام الضغوط الإسرائيلية.
تكرر المشهد ذاته في العراق وفي سوريا ومصر وليبيا واليمن وتونس وحيث وصل مال الدول العربية الغنية. وكانت نتيجة ذلك تدمير سوريا وتقيسمها عمليا بين مناطق نفوذ لدول إقليمية ومليشيات مسلحة وتكفيريين، وتم إضعاف العراق وإنهاكه واستنزافه، وتدمير اليمن وتقسيمه، وتدمير ليبيا وتقسيمها، وإضعاف مصر وتونس اقتصاديا إلى درجة الإفلاس.
صحيح لم يكن كل هذا الدمار من فعل العرب في العرب، ولكن كان لدول عربية دور في التمويل والتدخل المباشر كما سهل مخططات الدول الإقليمية والدول الكبرى، وكانت النتيجة النهائية لهذا المشهد المريع أن الأمة العربية تخلفت كثيرا عن ركب التطور. وفي سياق كل ذلك كانت دول عربية تتحالف مع أعداء الأمة الإقليميين والدوليين ضد العرب الآخرين، إلى أن وصلت الأمور ببعضهم بأن يتحالفوا مع إسرائيل والمشروع الصهيوني في ظل وهم بأنه المنقذ لهم.
انعكاس كل ذلك على القضية الفلسطينية كان فادحا وخطيرا. فقد باتت القضية الفلسطينية في أصعب أحوالها. انقسام عميق، حصار سياسي ومالي، شاركت به دول عربية دون وجل أو خجل، مع عمل مستمر ومتواصل لشرذمة الساحة الفلسطينية وإضعافها تماما في وجه إسرائيل. التآمر على القضية الفلسطينية خدمة للصهيونية العالمية، وتدمير الوضع العربي، هو مَنْ شجّع رئيسا مثل ترامب أن يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وينقل سفارته إليها، وما زلنا نذكر علاقات بعض الدول الحميمة مع هذا الرئيس وصهره كوشنير الذي كان يعمل ليل نهار على تصفية القضية الفلسطينية عبر الحل الاقتصادي تارة وصفقة القرن ومشاريع الضم تارة أخرى.
بعد كل ما اقترفه العرب بحق العرب وما اقترفه بعض العرب بالشعب الفلسطيني، يأتي شخص مثل محمد المسفر، الكاتب القطري، بقلمه المُلوث بالدم وبثّ الفتن داخل الجسد العربي، يأتي ليحمّل القيادة الفلسطينية مسؤولية تهويد القدس والأقصى والضفة وحصار قطاع غزة وتراجع القضية الفلسطينية وحتى اعتراف ترامب بالقدس عاصمة "للشعب اليهودي"، وينسى المسفر أن كل الضعف العربي والفلسطينيي جاء بسبب من رعوا ومولوا كسر شوكة الدول العربية خدمة للمشروع الصهيوني، والغريب أن المسفر يدّعي أنه يدعم المقاومة الفلسطينية، في حين هو وفي واقع الأمر يدعم الانقسام الفلسطيني ويمعن في إضعاف الموقف الفلسطيني أكثر فأكثر عبر استخدامه لغة المزايدات الشعبوية.
مصر لم ولن تنسى أنك دعمت جماعة الإخوان المسلمين، ليس حباً بهم ولكن لتخريب مصر، وكيف قبل ذلك دعمت حماس لا حباً بحماس والمقاومة الفلسطينية، بل لتشق الساحة الفلسطينية وتضعف الموقف الفلسطيني عبر دعم الانقسام وتغذيته. وسوريا لن تنسى دعمكم لجبهة النصرة والتكفيريين وليس حباً بهؤلاء وإنما لتخريب وتدمير سوريا، والأمر ذاته في العراق وليبيا وتونس واليمن.
لا يمكن فهم هجوم المسفر على القيادة الفلسطينية سوى أنها استكمال لدائرة التآمر خدمة للصهيونية العالمية. القيادة الوطنية الفلسطينية ليست منزهة عن الأخطاء والشعب الفلسطيني وحده له الحق في مراقبتها ونقدها عندما تُخطئ، ولكن العامل الأخطر في إضعاف الموقف الفلسطيني، هو تآمر بعض العرب على العرب وعلى الفلسطينيين في المقدمة.
للشعب الفلسطيني مصلحة إستراتيجية في ترميم العلاقات العربية العربية وإحياء التضامن العربي، له مصلحة في وقف هذا النزيف العربي وتآمر العرب على العرب، وللشعب الفلسطيني مصلحة في عدم تدخل العرب في شؤون بعضهم البعض الداخلية. وله مصلحة في أن يرى أمته مزدهرة ومتطورة وعصرية، أن تكون الدول العربية دول حديثة لكل مواطنيها.
المصدر:الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها