بعد ألف يوم وأكثر ما زالت صورة شخصيته الفريدة ماثلة في أذهاننا، مناضل مثقف، ابن الشاعر عبد الرحيم محمود، الذي استشهد وهو يقود الثوار دفاعًا عن قرية الشجرة، قضاء طبرية إلى الجنوب الغربي من مدينة طبرية في فلسطين، مبتسم وذو روح، لم يسمح للمهام الرسمية الثقيلة بالطغيان على جمال روحه وأفكاره وعذوبة كلامه، سبق حضوره الشخصي الإنساني موقعه الرسمي، لأي مجتمع يحل فيه، سياسيًا كان أو ثقافيًا، أو اجتماعيًا، فهل تراه الوفاء يسهل للمرء سلوك الدروب نحو القلوب، وأخذ منطقه الموضوعي نبراساً .. نعتقد ذلك وهذا ما أثبته الطيب عبد الرحيم خلال خمسين عامًا، في مسيرة حياته التي كرس منها خمسين عامًا ونيف على درب حركة التحرر الوطنية الفلسطينية.
تدلنا شخصية الطيب عبد الرحيم الذي رأى أنوار الحياة في عنبتا في طولكرم عام 1944، على صحة المزيج الرائع ما بين العقل والعاطفة، مزيج لا بد منه لتكوين شخصية قيادية، عقلانية، واقعية، متحررة من المواقف والقرارات اللحظية الانفعالية، فالفدائي ليس كما ظن الناس مجرد إنسان شجاع مقدام لا يهاب الموت وحسب، بل عاشق للحياة ولكن بالحرية والعزة والكرامة، يكافح في مقدمة صفوف شعبه لانتزاعها بالوسائل المشروعة أخلاقيًا وقانونيًا وأمميًا، فالطيب عبد الرحيم اختار درب الكفاح كفدائي (مناضل مسلح مسيس) مذ كان رئيسًا لاتحاد طلبة فلسطين في القاهرة وهو في الثانية والعشرين من عمره، وبعد تسلحه بشهادة البكالوريوس في التجارة حين نال شرف السبق في نيل تجربة (المقاومة الشعبية) بأكاديمية نانجينغ العسكرية في جمهورية الصين الشعبية مع أولى مجموعات حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" التي أرسلت للصين لتلقي علومها في عام 1966.
مع انطلاقة الثورة الفلسطينية (حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح) وابتداء بث (صوت العاصفة) و(صوت فلسطين) و(صوت الثورة الفلسطينية) من مواقع سرية عديدة في دول عربية مجاورة لفلسطين، ما كنا نعرف أسماء أصحاب أصوات جهورية، كنا نتلهف لسماعهم في ساعات محددة، أثناء تلاوة بيانات وتعميمات من إذاعات، نستدل عليها ليس من تردداتها وإنما من موسيقى أناشيدها ونبرة أصوات المذيعين فيها الآسرة للقلوب، المحفزة لأذهان المستمعين، وحواسهم، والمحركة لمشاعرهم، والأهم من كل ذلك الفاعلة في تحرير عقل المواطن العربي بما فيه الفلسطيني من قبضة اليأس والهزيمة، لندرك بعد عقود أن الطيب عبد الرحيم كان واحدًا من هؤلاء الفدائيين الذين كلفوا بمهمة خطيرة توازي خطر مهمة الفدائي في الدوريات والقواعد، فالإذاعة كانت دائمَا عرضة للقصف خاصة في مرحلة تأسيس إذاعات الثورة المتحركة، فأحدث الطيب عبد الرحيم مع إخوته الأوائل في مسار الإعلام المسموع (إذاعات الثورة) تأثيرًا إيجابيًا على وجدان المتلقي، فلسطينيًا كان أو عربيًا، انتقل إلى النضال الدبلوماسي كممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في يوغسلافيا، وجمهورية الصين الشعبية، ومن ثم في مصر العربية، وكذلك في المملكة الأردنية الهاشمية.
كان الطيب عبد الرحيم بمثابة موسوعة سياسية ثقافية ناطقة، يفيد سائله بالمعلومة بثقة، دون تكلف أو تصنع، ما جعلنا نثق بأطروحاته، وليدة رؤيته وأفكاره وتحليلاته ومقارباته، فأبو العبد – رحمه الله – لم يحتكر المعلومة الموثوقة، وإنما حرص على إطلاع المؤثرين في ميادين السياسة والإعلام، لقناعته بأن الرسالة السياسية والإعلامية تبقى خطابًا ممجوجة بدون معلومة، وبدون قدرة عقل المطلع عليها على تحليلها، وكأن المناضل الذي حرص في زمن (صوت الثورة) وصوت العاصفة على ترديد عبارة: "بالكلمة الحرة المعبرة عن الطلقة الشجاعة" بقي على ذات المنهج حتى عندما تولى أمين عام الرئاسة بتكليف من سيادة الرئيس محمود عباس.
ساهم الطيب عبد الرحيم بصقل وعي وطني حر وتحرري، مستخدمًا أنسب المفردات والمصطلحات في الخطاب السياسي والرسالة الإعلامية ونجح كما نعتقد في ترك بصمات واضحة على المستويين التنظيمي (في حركة فتح) والوطني، وذلك بفضل رؤيته الثاقبة، وبصيرته المصقولة بخلاصة التجارب المريرة، فالتنظير والكلام الذي يطرب سماع الانفعاليين لم يكن في قاموس تفكيره أو على جدول أعماله. ونعتقد بل نثق أن الطيب عبد الرحيم كان واحدًا من الشخصيات الوطنية الفلسطينية التي تستحق بجدارة وصفها بـ(رجل دولة) فقد تبنى فكرة الثورة والسياسة، وزاوج بينهما بما يصلح لرفع أركان دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، فقيمة الإنسان عنده عظيمة بفكرته ومبادئه وعمله ومواقفه وآرائه القيمة.
لروحك السلام في العلا، أبو العبد الطيب، ولك منا الوفاء.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها