-١- أبداً، ما كنّا، ولن نكون، على هامش الحياة، أو هامش النهر، أو هامش المتن، لأننا نحن أبناء الحياة وصنّاعها، ولأننا النهر الذي روّى الأزاهير، والأعشاب، والهندباء، وشجر البرتقال، والسدر، والخروب، والغيوم الجاريات في الفضاء الرّحيب، ولأننا نحن.. متن المتون للعمارة والفنون والكتب، والكبرياء، والتواريخ المكتوبة، بأدوات مقالع حجارة نابلس الوردية!
-٢- أبداً، ما كان دمنا فائض حضور، أو فائض قيمة، أو فائضاً يلهو به الغرباء، ولا فائضاً لتمارين البرابرة الجدد.. لأن دمنا هو حضورنا البهي هنا في عكا، وفي النقب، وأم الفحم، وجنين، والقدس، وأريحا، وهو القيمة العلامة التي تشعّ ضوءاً راهجاً في النهارات العوافي، وهو عنادنا الوطني المليء بالجبروت والصلادة وقت مواجهة الغرباء والبرابرة الجدد، وهو روح العاطفة التي جعلت طيور السنونو تبني أعشاشها في سقوف دورنا لتقول لصباحاتنا صباح الخير، ولتهدهد مساءاتنا بذبالات الشمع الحزين.
دمنا، هو هذه الأنسنة للنهر الذي كان معربداً من قاع الجبل الشيخ إلى المصب هناك حيث هو مغتسل سيدنا، وقد غدا مقدساً تهفو إليه الأرواح فوق أقدامٍ، لولا الحياء، لغدت طيوراً.
-٣- أبداً، ما كان هذا المشهد في جنين، وجنين هي جنين القلب، ليبدو على هذه الصورة من البسالة، والعزة، والوفاء لدروب الأجداد وكتبهم، ونحن نرى أبناء جنين يطاردون الدواب الحديدية وهي تفرّ من أمامهم، مطرودةً مثل غيلان أعماها التوحش، وأثقل خطوها الولوغ بالدم، وأخرجتها، من كتاب الإنسانية، أنيابُها السود!
بلى، كان المشهد أمام الكاميرات، أيها العالم الذي لا يرى، أشبه بمطاردة الثيران في شارع من شوارع أندلوسيا، استعاره (أعني المشهد) شارعٌ من شوارع جنين للحظة واحدة ليقول للعالم كلّه، ها هي ثيران الحديد التي صنعها الغرب، تخرج مطرودةً من جنين بعد أن أوغلت في دم أربعة من أبناء الأرض، وشجر الأرض، وحقول الورد، ها هي تخرج مطرودة، بحجارة الأرض، وغضبة الروح الوطنية.
-٤- ها هم أهل الأرض، في جنين، يدافعون عن البيوت، والتراب، والهواء، والكتب بالكبرياء الفلسطينية التي لم تعرف، وفي أزمنتها كلّها، إلا العلو والشموخ، يدافعون بأرواحهم، وأجسادهم كي يدفعوا هذا الظلموت الأسود الداهم لهم في الصّباح والمساء، ها هم يقولون لك، أيها العالم الذي لا يرى ما يجب أن يُرى، إن دم الأبناء ودم الأرض ودم الحياة واحد، ولا تفريط، ولا انحناء، ولا إدارة ظهر، ولا خنوع، ولا التباس، فالبرابرة الجدد نعرفهم أكثر مما يعرفون أنفسهم، وها هو جَدّنا، ونشورنا، وصوتنا، وهمّتنا.. على بدوٍّ شارق، بعد ٧٥ سنة من ثقافة الإخافة، وثقافة الإماتة، وثقافة اليأس.. ها هم أبناء جنين يرجمون البرابرة باللعنات والحجارة، وقولة شاعرنا الأبي: هنا نحن باقون!
-٥- أبداً، ما كنّا، ولن نكون، علامات ترقيم في النصوص، ولا صوراً شارحة، ولا تعقبات أو مضايفات، لأن أجدادنا، وطوال العصور، قلّبوا كل حجر في بلادنا، وهم على ظهور الخيل، وحرثوا الأرض وزرعوها وهم يغنون لها: بلادي.. بلادي، بأصواتهم الصّافية، وهم الذين أنسنوا مقالع الحجارة/ الجبال، حتى صارت تضحك وهي ترى العمائر تعلو، ويصير لها أبواب، ونوافذ، وحواكير.. وضيوف، وهم الذين جعلوا البحار والبحيرات أرضاً يابسة يمشي فوق أمواجها أهل القداسة والصدق والعقائد المكينة، وهم الذين هدهدوا النهر لتصير له ضفتان، وقرى، وقطعان ماشية، ورعيان يسيّلون أحلامهم من خوابي الغابات، أمام الصخور، وطيّ الظلال، ترانيمَ العافية.
-٦- أبداً، هذه هي حياتنا، وكتبنا، وأشواقنا، أيها البرابرة الجدد، وهي ميراثنا وتراثنا، ومرايانا، وهي صرر عزتنا، وهذا هو بقاؤنا الذي نساهره ليلاً، لنرى نشوره، وخطوه، وفعله في النهارات الطّالعات، وهذه هي عقيدتنا التي تعلّمناها عبر الصوت، ونحن أجنة، ونعرفها صورة وقت المناغاة والحبو، وهي نشيدنا الذي يروّي القلب بالفرح المحلوم الآتي، لا بدّ، على ظهر فجر أبيض ستصفق له المُهجُ، وكثبانُ رمل النقب، وأمواجُ بحر حيفا وعسقلان، وأشجارُ الخروب قرب جسر بنات يعقوب، وأزاهيرُ النرجس في فيء صخور جبل قرنطل في أريحا.
هذه الحياةُ، هي حياتنا، التي ستصفو، مثل سماء عاشقة لتبدي لنا، وللعالم السّادر في غيبوبته، قوس نصرنا التي أعلينا قنطرتها إلى آخر آخر ما استطاعت عليه فطرةُ الأوطان، بألوانها الأربعة الرّاهجات.
-٧- أجل، في مشهدٍ عميم، حمولتُه حزنٌ ثقيل، في أرض مقدسة اسمها جنين، تبدو الروحُ الفلسطينية بشجاعتها المعهودة، وكبريائها المتوارثة، وهي تطرد غيلان الحديد، ومركبات الشر والرصاص بالغضب والعناد الوطنيين، ثم تنفرج الدنيا، حيث تؤوب الروح الفلسطينية إلى الأبناء الشهداء.. كيما تغني لهم بالشجن الأتم، أغنية العجوز هدلة:
محنّى بالدم.. وتضحك،
والعيون فضة وسابلات،
تضحك، والقلب وقيدة نار، وتحرق
وغمار القمح، ورب دينك، واقفات.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها