أعترف، بأن ما من كاتب من الأدباء العرب حيّرني وأوقفني طويلاً في ظلال الأسئلة مثل الأديب غسان كنفاني. ليس لأنه كتب مجده بحبره ودمه ومواقفه وشبابه وأدبه، وليس لأنه كان من أهل الثقافات ذات الشمولية والإحاطة، ولا لأنه كان شاغل الناس، والصحافة والأدب، والسياسة، ولا لأنه أوقد حزن من أحبوه.. ومضى وإنما لأنه أديب عميق الرؤى، بعيد في تغويره الفني!
أوقفني غسان كنفاني طويلاً في قرى الأسئلة بحثاً عن إجابة شافية ضافية لسؤال طويل متشعب فحواه: كيف كتب غسان كنفاني كل ما كتبه في الرواية، والقصة القصيرة، والمسرح، وأدب الأطفال، والمقالات، والنقد الأدبي، وما شغل به من أشواق للفن التشكيلي، خلال فترة زمنية لا تزيد على عشر سنوات؟! وكيف استطاع أن يكتب أدباً راقياً من الناحية الفنية ويتحدث عن فلسطين، والفدائيين، والبنادق، والتضحية، والشهداء، والجرحى والأسرى.. من دون الوقوع في مربع المباشرة، والآيديولوجيا، والدعاية العاطفية!
لقد كان غسان كنفاني بالنسبة إليّ، ولا يزال لغزاً محيراً، مع أن كتبه مبسوطة بين يديّ، وسيرته الذاتية، الحياتية منها والأدبية، مبسوطة هي الأخرى بين يديّ، وأعرفها بتمام تفاصيلها، ومع أنّ ما كُتب ودار حول شخصية غسان كنفاني وأدبه، بات مبسوطاً بين يديّ أيضاً. نعم ما زال غسان كنفاني لغزاً لأن موهبته كبيرة، وروحه طرود لكلّ قمة، وتشوفه الإبداعي كان بلا حدود وإلا كيف يرحل تاركاً وراءه عشرات القصص التي لم تكتمل، وروايات تنتظر فصولها الأخيرة، ومسرحيات تستدعي ما تختتم به أحداثها! والمحير هو النظر إلى غسان كنفاني المتفرد وسط غابة من المثقفين والمبدعين ونيافته عليهم جميعاً وعلى غير صعيد، كان حوله من الأدباء والكتّاب الفلسطينيين كثرة، ومن الكتّاب والأدباء العرب كثرة، وكانوا أهل وهرة ومُكنة، وأهل حظوة أدبية، وتجارب إبداعية تقطر شهرة ومجداً، ومع ذلك تفرّد غسان كنفاني وناف عليهم، وأعترف أيضاً، أنني وكلما قرأت أدب غسان كنفاني آمنت بأن ما من أحد امتلك ما امتلكه غسان كنفاني من مفاتيح الأدب الذهبية، وأن ما من أحد امتلك موهبة مثل موهبته، وما من أحد من أبناء جيله الأدبي، وما بعده أيضاً، استطاع أن يفتكّ روحه من لوثة القول داخل النص الأدبي! وإلا كيف وسم النقاد عقد السبعينيات من القرن العشرين الفارط زوالاً أنه عصر الأدب الآيديولوجي، لأنّ النصوص الأدبية باتت أشبه بالمزارع التي نما فيها القول التحريضي، والمديح المجاني، والحماسة، والتهاليل بدل البكاء، والخطابات بدل حوافز الأدب ووحداته الداخلية التي تشكل نسيجه، وحضور الموضوع (لأنه نبيل) وغياب البناء الفني! ولهذا كان قارئ نص غسان كنفاني يسرّ بحمولته الأدبية، وروحه الفنية، لأن الموضوع والبناء قاداه إلى الغنى الذي يحلم به النص الأدبي، على عكس ما فعله الأدباء والكتّاب الآخرون، الذين ظنوا وهماً أنّ نبل الموضوع هو الذي سيقود إلى الغنى، بل ربما يقود إلى تحرير فلسطين!
غسان كنفاني يعدّ، وعبر سيرته الحياتية والأدبية، تجربة مذهلة، تمثل مرحلة زمنية من تاريخ الشعب الفلسطيني، إنها تجربة في الإبداع الأصيل الذي عبر عن محاور أساسية في القضية الفلسطينية، ومنها السير في الطريق الملغومة وبعيداً عن فلسطين، والظن بأنها الطريق الصحيحة الآمنة، وهذا ما رأيناه في روايته (رجال في الشمس) حين مشى رجال الرحلة في درب معاكسة لدرب الثورة، درب تبعد الجغرافيا والتاريخ، والرؤى عن الروح الفلسطينية، فكان مصير الجميع الموت اختناقاً، ورمي الجثث في مكب النفايات، ومنها أيضاً التربية التي تلقاها الأبناء الذين فُقدوا في أثناء النكبة، وتأثيراتها فيهم، وهذا ما جاء في روايته (عائد إلى حيفا)، وهذه ليست سوى إشارة إلى أن غسان كنفاني كان مهموماً بالقضايا الكبرى الخاصة بالقضية الفلسطينية عبر أشغال ضفتي تواجد الفلسطينيين في داخل فلسطين، وفي المنافي أيضاً.
ومع أنني على قناعة كبيرة أن غسان كنفاني كان صاحب مشروع ثقافي في الأدب، والإعلام والسياسة، إلا أن هذا المشروع لم يكتمل لأن غسان كنفاني رحل مبكراً، والورق الأبيض الذي انتوى تحبيره كان تلالاً، ولأن أفكار القصص التي همّ بكتابتها كانت كثيرة، وكثيرة جداً، ولأن الروايات التي حلم بمساهرتها كانت عديدة.
تحدثت، هنا، عن غسان كنفاني لأن كتابات تظهر في هذه الآونة تريد القول إن تجربة غسان كنفاني اخترمها القول، وما عادت قابلة لأيّ قول جديد، وإنها تجربة انتهت نقدياً، وكل ما فيها طرق الحديد، وعلينا أن نحيّدها جانباً، وأن كلّ دعوة للعودة إليها هي دعوة تنقصها الموضوعية، وهذه الكتابات تظهر الآن بعد انهمام وزارة الثقافة الفلسطينية بأدب غسان كنفاني، والحق أن هذه الكتابات هي التي تخلو من الموضوعية، لأن أهل بوشكين الروسي ما زالوا ينقّبون في كتاباته مثلما ينقّب الآثاريون عن اللقى، وأهل شكسبير هم أيضاً ما زالوا ينقّبون عن جماليات لم يعرفوها بعد في كتاباته، ورتبةُ غسان كنفاني في مدونة أدبنا الفلسطيني لا تقل ديزيماً واحداً عن رتبة بوشكين وشكسبير؛ فهل وعى، ويعي، أصحاب الكتابات العجلى التي تطلّ برأسها الآن، لماذا انهمت وزارة الثقافة الفلسطينية بأدب غسان كنفاني وإبداعه الفذ؟!
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها