وعد بلفور الذي منحته بريطانيا العظمى للحركة الصهيونية عام 1917، كان يتضمن ابهامًا مقصودًا، عندما قال: "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين"، وأخذ حرف "في" أول تجسيد له في مشروع التقسيم الذي اقترحته لجنة بيل عام 1937، خلال ثورة الشعب الفلسطيني الكبرى (1936- 1939)، وفي حينها اعطت اللجنة البريطانية اليهود ما يوازي 27% تقريبًا من مساحة فلسطين وكانت من أخصب المناطق. أما التجسبد الثاني فقد وسع كثيرًا حرف الـ"في"، جاء ضمن قرار التقسيم رقم (181) للعام 1947 واعطى الدولة اليهودية 56% من مساحة فلسطين، ولم يكن عدد اليهود، وبعد كل موجات الهجرة، يكاد يصل ثلث السكان، ولم يكونوا يملكون أكثر من 7% من الأرض.
وبعيدًا عن التوسع الذي قامت بها إسرائيل خلال حرب عام 1948، بحيث استولت على 78% من مساحة فلسطين، جاء وعد الرئيس الأميركي السابق ترامب لنتنياهو في 26 كانون الثاني/ يناير 2020 ليوسع "في" البريطانية على حساب الدولة الفلسطينية المعترف بها في هيئة الأمم المتحدة، وتعترف بها أكثر من 140 دولة.
وعد ترامب هو سماح أميركي لإسرائيل لتضم كل المستوطنات الكبيرة منها والصغيرة، وتضم الأغوار وما تشاء من أراضي الضفة، وتفرض سيادتها عليها. وتفسير ذلك واقعيًا أنه لن يبقى للفلسطينيين من فلسطين التاريخية سوى 10%، كما لا يفوتنا أساسًا أن إسرائيل قد وضعت يدها على فلسطين كلها منذ حرب عام 1967، وخلال ذلك يتم التوسع بين الوعدين، بلفور وترامب كما تشاء أطراف المشروع الصهيوني الاستعماري.
وعبر تطور القضية الفلسطينية، منذ نشأتها قبل أكثر من مئة عام وحتى اليوم، كانت القوى الاستعمارية والصهيونيون ينظرون الى فلسطين، إما أنها "أرض بلا شعب"، أو أن فيها سكان "غير مؤهلين" لإقامة دولة ويمكن طردهم من وطنهم الأصلي. وعد ترامب جاء في القرن الواحد والعشرين، وبعد مئة عام من وعد بلفور ليعزز من هذه النظرة الاستعمارية العنصرية. وفي الرسالة، التي هي بمثابة وعد يوسع مساحة الوطن القومي اليهودي في بلفور، تحدث ترامب عن دولة فلسطينية، ويتضح من السياق أنها دولة دون القدس ولا تمنح الفلسطينيين سوى أقل من 40% من الضفة، بمعنى أنه لن تكون هناك دولة ذات سيادة قابلة للحياة.
والغريب في أمر هؤلاء المستعمرين أمثال بلفور الإنجليزي وترامب الأميركي، أنهم وبكل برود أعصاب يقررون منح أرض ليست لهم وينزعون عنها شعبها الأصلي، لشعب آخر قاموا هم باختراعه وتركيبه خدمة لمصالحهم في إطار استراتيجية تضمن لهم الهيمنة على المنطقة العربية. ترامب ومن خلال دبلوماسية استعراضية احتفالية قام أولاً بمنح القدس لإسرائيل نهاية عام 2017، ومن ثم وفي السنة الأخيرة من حكمه 2020 اعطى وعدًا لنتنياهو بضم المزيد من الأرض الفلسطينية.
ولكن ما فات ترامب ومن قبله بلفور أن في فلسطين شعبًا لا يمكن فصله عن أرضه، وقد اثبتت كل التجارب ذلك، في حرب عام 1948 كانت الصهيونية ومعها الدول الاستعمارية، تعتقد أنه قد تم الاجهاز على الشعب الفلسطيني.
وفي هذا الإطار قام ديفيد بن غوريون بتنفيذ أكبر وأبشع عملية تطهير عرقي، فقد قام بتشريد أكثر من 800 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم، وقام بتدمير ومسح ما يقارب من 500 قرية فلسطينية، وتحولت مدن مثل حيفا ويافا وعكا وصفد وطبريا وعسقلان والمجدل إلى مدن أشباح، وفي المحصلة النهائية تم شطب اسم فلسطين عن الخريطة.
ولكن وبعد عقد ونصف، ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية في مطلع عام 1965 أعاد الشعب الفلسطيني بعث نفسه، ووضع القضية الفلسطينية من جديد على طاولة البحث. واليوم وبعد أكثر من 75 عامًا من النكبة تقف إسرائيل أمام حقيقة أن الشعب الفلسطيني يمثل أكثر من نصف السكان في فلسطين من النهر للبحر. لقد اثبتت التجربة، وبعد أكثر من 100 عام من الصراع أنه لا يمكن الغاء وجود الشعب الفلسطيني، كما أنه متمسك بحقه بالعودة إلى وطنه، ولعل تجربة أوسلو، وما أن أتيحت للفلسطينيين العودة ولو بشكل محدود فإن عشرات الآلاف عادوا إلى وطنهم، ومنذ عام 1994 وخلال 28 عامًا تزايد عدد هؤلاء، عبر الزيادة الطبيعية، لأكثر من ربع مليون إنسان، فالحقيقة الفلسطينية لا يمكن انكارها أو إلغاؤها، فهي الحقيقة الأصيلة المنسجمة مع جغرافيا وتاريخ المكان.
*المصدر: الحياة الجديدة*
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها