في خضم التحولات الجارية على أكثر من مستوى وصعيد إقليمي وعالمي، وتراجع وانكفاء الحالة القومية العربية، هوى شهاب جديد من حراس القومية العربية، فارس من رعيل القوميين العرب الأوائل، الذين امتشقوا راية الدفاع عن شعوب الأمة كلها بدءًا من فلسطين مرورًا بمصر والجزائر واليمن والخليج العربي ولبنان وسوريا والعراق وليبيا والصومال والسودان، ترجل رجل من المؤسسين الأوائل لفكرة القومية العربية في العصر الحديث منذ مطلع الخمسينيات، من أولئك الرجال الأشداء، الذين حملوا الآمال والآلام، والأحلام الكبيرة والحسرات والمواجع والنكسات والارتدادات الخطيرة لبناء صرح الأمة العظيم، من ذلك الطراز الذي لم تهن عزيمته، رغم وحشة الليل العربي، وانكفاء واضمحلال الكفاح القومي، بقي قابضًا على جمر القضايا الوطنية والقومية، متأكدًا بعودة الروح لمجد الأمة من خلال امتشاق الأجيال الجديدة رماح الحرية والاستقلال الحقيقي والديمقراطية والمواطنة، واسقاط مخالب التبعية والردة، والانتصار على الهزيمة.
غادر البطل القومي العربي الشجاع والنبيل، أحمد الخطيب، ابن الكويت البار المسرح السياسي بعد رحلة كفاح طويلة لعب فيها أدوارًا قيادية على المستويين الوطني والقومي، فهو أحد مؤسسي حركة القوميين العرب مطلع خمسينيات القرن الماضي مع رفاقه جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي وباسل الكبيسي وسلام أحمد وحامد الجبوري وقحطان الشعبي وعبد الفتاح إسماعيل ونايف حواتمة وأحمد اليماني... وغيرهم من الرواد الأوائل بعد رحلة كفاح امتدت من 1952 حتى السادس من اذار/ مارس الحالي 2022، مع توقف نبض قلبه عن الخفقان. سبعون عامًا قضاها المناضل الباسل الخطيب منافحًا ومدافعًا عن قضايا أمة العرب بهمة لا تلين، وعزيمة فولاذية، وانتماء راسخ الولاء لقضايا وهموم القومية العربية.
لا تستدعي الضرورة أن تتعرف على الراحل الوطني والقومي الخطيب مباشرة أو أن ترتبط معه بصداقة حتى تستحضر ذكراه، ومناقبه وسماته وخصاله الإنسانية، يكفي أن تكون مؤمناً بوطنيتك وعروبتك وإنسانيتك لتكرم الأبطال المؤسسين للفكرة القومية، بغض النظر عما شاب الفكرة والتنظيم وآليات العمل من نواقص في أقطار الوطن العربي الكبير، فهذا مستوى وذاك مستوى، لأن عظمتهم وإبداعهم تجلى في الإمساك في لحظة تاريخية محددة ووفق شروطها الذاتية والموضوعية بناصية الدفاع عن حرية واستقلال وسيادة شعوب الأمة على أراضيهم، ورفض الاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة خاصة الاستعمار الاستيطاني الإجلائي الإحلالي الصهيوني في فلسطين، والاستعمار البريطاني في اليمن (الجنوبي)، والاستعمار الفرنسي في الجزائر ودول المغرب العربي والاستعمار الإيطالي في ليبيا، وبناء مشاريع الوحدة القومية، التي تكرست في البداية في سوريا 1958/1961، والمشاريع القومية الأخرى، التي لم يحالفها الحظ نتاج صراع القوى القومية فيما بينها، وعبث قوى الاستعمار القديم واجهزته الأمنية بمصائر الشعوب والنخب السياسية، التي على ما يبدو لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية لبناء صرح نموذج قومي يبنى عليه.
تعرفت على الراحل القومي الكبير من خلال انتمائي الباكر للجبهة الشعبية وتحديدًا مع التأسيس، ومراجعتي تجربة القوميين العرب وفروعها في أكثر من قطر عربي. واستوقفتني تجربة الدكتور أحمد الخطيب، الذي كان له باع طويل في حمل راية القومية انطلاقا من مرحلة دراسته الطب في الجامعة الأميركية في بيروت مرورًا بمسقط رأسه دولة الكويت الشقيقة خصوصا والخليج العربي عمومًا، وتمكن من لعب دورٍ متميز في دعم وإسناد حركة التحرر الوطني العربية في أوطان العرب جميعًا، ودون تمييز؛ لأنه كان مسكونًا بقوميته العربية، ومدافعاً مقدامًا وصلبًا عنها في ميادين الحياة المختلفة داخل الكويت وخارجها، منها مجلس الأمة الكويتي، الذي تبوأ فيه أكثر من مرة العضوية، ومن خلال منابره الإعلامية "الإيمان" المجلة الشهرية والأسبوعية "صدى الإيمان"، وهي أول مجلة أسبوعية في الكويت، وحتى في حقل الرياضة والثقافة لعب دورًا مهمًا في تأسيس "النادي الأهلي"، وساهم عبر "المنبر الديمقراطي الكويتي" الذي أسسه في حمل راية القومية. كما وشكل لجان التضامن مع فلسطين واليمن والجزائر وغيرها من الدول والشعوب العربية.
رحل القائد الخطيب عن عمر ناهز الـ95 عامًا عاتبًا وحانقًا على أجيال الامة العربية الجديدة، التي هرستها الحروب والنزعات القطرية الخاطئة، وانتفاء روح التمرد الوطنية والقومية، والغرق في متاهة الهويات المذهبية والطائفية والدينية والقطرية الضيقة، وغياب قوى التغيير الحقيقية، وسقوط ركائز الأمن القومي العربي، وغياب عوامل التكامل والتضامن العربي، ليس هذا فحسب، وإنما في تورط العديد من القوى والدول في حروب بينية وعلى حساب مصالح الشعوب العربية ذاتها، ومصالح الأمة وعوامل قوتها. بيد أنه غادر إلى عالم الخلود السرمدي وهو على قناعة بأن سوداوية اللحظة التاريخية المعاشة زائلة لا محالة، ولديه الإيمان الراسخ باستعادة روح القومية العربية بمعايير جديدة مواكبة للعصر ومستجيبة لطموح الأجيال الجديدة. رحمة الله على القائد الخالد أحمد الخطيب، الذي ستبقى ذكراه خالدة في السجل الذهبي لأبطال الأمة العربية جميعا.
*المصدر: الحياة الجديدة*
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها