الرسالة الأهم التي أراد سيادة الرئيس محمود عباس، إيصالها لمجموعة من القيادات السياسية، والكتاب، والأكاديميين، والمثقفين، إلى جانب ممثلين عن المجتمع المدني، أنه لا يمكن فهم راهن القضية الفلسطينية بدون فهم عميق للتاريخ المتعلق بها، وهو تاريخ متشعب وأحداثه دارت وتدور على مساحة جغرافية واسعة جدًا ولها جذور تاريخية تعود لقرون خلت. ومن هذه الفكرة أراد سيادة الرئيس أن يقول: "إن استسهال إطلاق الأحكام المسبقة بشأن القضية الفلسطينية، هو أمر يغيب الوعي الوطني الحقيقي لبناء مواقف صحيحة".
على سبيل المثال، لا يمكن فهم القضية الفلسطينية بمعزل عن التطورات التي كانت تجري في أوروبا في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، وربما أكثر من ذلك في عمق تاريخ مسرح الأحداث في القارة العجوز. وفي سياق ذلك لا بد من متابعة نشأة المسألة اليهودية، ولاحقًا الأفكار المتعددة التي طرحت لحلها إلى أن ظهرت الصهيونية كفكر والصهيونية كحركة ومؤسسات وفعل. وفي نفس السياق متابعة الاضطهاد الذي لحق باليهود ومسألة اندماجهم من عدمها في المجتمعات الأوروبية، وطبيعة حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وفي الوقت نفسه معرفة التنافس الذي كان يدور بين الدول الأوروبية  وتطور كل منها صناعيًا واقتصاديًا وقدرتها العسكرية على الاستعمار والتوسع في القارة وخارجها. وبما يتضمن فهم الحادثة وظهور الفكر القومي العلماني، بالإضافة إلى التطورات الاجتماعية والاقتصادية الرأسمالية، فكل ما كان يدور في أوروبا كان له صدى وتأثير مباشر في منطقتنا العربية، وبالتالي لا يمكن تفسير الأحداث عندنا بدون فهم ما كان يجري في أوروبا تحديدا وباقي العالم.
وإذا أخذنا وعد بلفور كنموذج لا يمكن فهم صدوره ولماذا جاء بهذا المضمون إلا في سياق فهم تطورات الحرب العالمية الأولى، وتأرجح ميزان القوى خلالها، بالإضافة إلى ما حصل فيها من اتفاقيات بين الدول المتحالفة ومثال على ذلك اتفاقية سايكس - بيكو بين بريطانيا العظمى وفرنسا التي وقعها الطرفان لتحديد مناطق نفوذ كل منهما في شرق المتوسط. وأن نلاحظ في سياق ذلك تأثير قناة السويس وطرق الوصول للهند والشرق البعيد على مطالب كل طرف في هذه الاتفاقية.
القضية الفلسطينية ولدت من رحم كل هذه التطورات والتطورات التي كانت تدور في منطقتنا،  فلكي تفهم أي حدث أو تطور كان يجري في فلسطين بدءا من نهاية القرن التاسع عشر كان لا بد من رؤية ما كان يجري في أوروبا وباقي منطقة الشرق الأوسط. فالقضية الفلسطينية ولدت من رحم التطورات تلك والتطورات التي كانت تجري حتى في الولايات المتحدة الأميركية بالتزامن مع كل ذلك.
وبما أن التاريخ لا يتوقف أبدًا فإنه متغير، وبهذا المعنى لا قوالب جاهزة لفهمه أو البقاء على نفس النظرة لتطور الأحداث  فالمتتبع يجب أن يكون صاحب رؤية ومتيقظا دائمًا ويعرف أين هو في زحمة التطورات كي يستطيع أن يقيس بميزان الذهب ويحدد مواقفه. 
ومن هنا لا بد من إعادة قراءة تاريخ نشأة وتطور القضية الفلسطينية مرارًا وتكرارًا لأن الصيغ الجامدة القديمة التي تعودنا عليها شوهت الكثير في وعينا وبقينا أسرى لمواقف لم تكن بالأساس مبنية بالطريقة الصحيحة لذلك استمر تدهورنا. ولدراسة القضية الفلسطينية تحديدا علينا أن نعود إلى آلاف السنين إلى الخلف لمعرفة تاريخ تطور الروايات التاريخية المختلفة ومن بينها تاريخ تطور الرواية اليهودية ومن ثم الصهيونية، وتاريخ تطور روايتنا الفلسطينية. وهذا الأمر يتطلب دراسة الحضارات وما تضمنته من ثقافات في منطقتنا أساسًا وفي العالم الذي أثر في ظهور المسألتين اليهودية والفلسطينية.
وبعد كل ذلك، وهذا أيضًا ما أراد أن يقوله سيادة الرئيس، هو في كيفية ربط التاريخ بالواقع الراهن، ففهم الراهن يحتاج إلى فهم عميق للتاريخ وكيف تطور إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه. أما الهدف فهو كيف يمكن أن نتصرف تجاه المستقبل وكيف نضع خططنا انطلاقًا من رؤية وأهداف واضحة للجميع.

 

المصدر الحياة الجديدة