واحدة من أهم جبهات الحروب والصراع بين الأعداء هي الثقافة؛ لأنها تمثل الحامل الأساس لمنظومة الوعي القومي الاجتماعي، وتشكل الحصانة المعرفية، وتتعامد مع التاريخ، تاريخ وموروث مطلق شعب من الشعوب. لا سيما وأنها جُبلت وبنيت على مدار الحقب التاريخية، ونهلت وأصلت ذاتها مع صيرورة وسيرورة الزمن في ماضي وحاضر هذا الشعب أو تلك الأمة. وبالتالي فإن هدم أو تشويه وتحريف هوية شعب من الشعوب يحتاج إلى معاول وأدوات ثقيلة ومؤهلة ومركزة ودائمة لإعادة صياغة ثقافة ووعي الشعب المستهدف. 
ولا يمكن للحروب العسكرية تحقيق هكذا هدف، رغم أن الجيوش قد تستطيع من احتلال بلد ووطن من أوطان الأمم. إلا أن احتلالها وحده لا يمكن الدولة الغازية من تحقيق مآربها وغاياتها الاستعمارية، بل العكس صحيح، لأن الاتكاء على البعد العسكري وحده يعطي نتائج عكسية، ويعمل على تعزيز تعلق وتمسك الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار بهويتها وشخصيتها وتاريخها. الأمر الذي يفرض على المستعمرين استخدام كامل أسلحتهم التدميرية وعلى رأسها سلاح المعرفة والثقافة بالتكامل مع الأسلحة الأمنية والاقتصادية. 
ولهذا تستحضرني هنا مقولة وزير الدعاية السياسية النازي، جوزيف غوبلز للتدليل على أولوية وأهمية ومركزية الثقافة في المواجهة، التي يقول فيها "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي"؛ لأن الثقافة هي الحصن الحصين لهزيمة العدو. ولهذا نلاحظ أن العدو الصهيوني الإحلالي والإجلائي منذ اللحظة الأولى لهجمته الاستعمارية لجأ للثقافة والإعلام وعملية غسل الدماغ من جهة أولى لتضليل المهاجرين اليهود من مختلف بقاع الأرض لصهينتهم، وإقناعهم بـ "عدالة" هجرتهم لـ "أرض الميعاد"، الأرض "غير المسكونة"، والتي صاغها بالشعار التاريخي الاستراتيجي لترويج بضاعته الفاسدة والاستعمارية "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، هنا رسم معادلة مفبركة وكاذبة، وتتنافى مع وقائع التاريخ القديم والمعاصر، وتتوافق مع جملة التشوهات وعمليات التزوير للعهد القديم (التوراة) التي أدخلتها غلاة المدارس المتناقضة مع أعمدة وركائز الوصايا العشر، ومن جهة أخرى لتعميم مقولاته الثقافية الإعلامية في أوساط الرأي العام العالمي، خاصة وأن التمازج بين العهدين القديم والجديد، وما أحدثته الصراعات والتناقضات التناحرية بين أقطاب الطوائف والمذاهب المسيحية دفع المجددين البروتستانت (الإنجليكان) من الاقتراب الشديد مع اليهودية الصهيونية المشوهة. فضلا عن أن أصحاب المشروع الكولونيالي الاستعماري الصهيوني، هم أقطاب رأس المال الغربي ، الذي ساهم عبر إمبراطوريته الإعلامية في تكريس الدعاية الثقافية الإعلامية الصهيونية في وعي الشعوب الإنجلوسكسونية ومن يدور في فلكلها. ومن جهة ثالثة عمل بجهد حثيث ومتواصل على اجتثاث وطمس ثقافة وهوية الشعب الفلسطيني، الشعب الذي أنكر وجوده، وجاء لينفيه كليا من الديموغرافيا، من الأرض عبر الترانسفير والنكبات المتعاقبة لفرض حضوره وروايته المزورة بدعم وإسناد من ذات الغرب الرأسمالي. 
وما زال الاحتلال الاسرائيلي ليوم الدين هذا، وإلى أن ينتهي الصراع سيبقى يصارع بكل ما لديه من تغول استيطاني استعماري وعسكري وأمني وثقافي تربوي وإعلامي وديني وحقوقي قانوني لفرض الوقائع الداعمة والمؤيدة لمشروعه الإحلالي والإجلائي لتدمير وتهشيم ونسف الهوية الوطنية الفلسطينية، واغتصاب ذلك الموروث الفلسطيني، والادعاء بأنه "موروثه" بالتلازم مع تعمق وصعود المشروع الصهيوني وصولا للدولة الإسرائيلية الكاملة. ومن المتابعة التاريخية لكيفية فرض مشروعه الاستعماري لاحظنا ادعاءه أنه صاحب المطبخ الفلسطيني ليس في الفلافل والحمص وغيرها من المأكولات، وإنما في كل التفاصيل المتعلقة بالهوية والثقافة والموروث الحضاري الفلسطيني بالملابس الفلسطينية بكل مشتقاتها الثوب والتطريز والقمباز والديماية، وحتى بالدبكة والموسيقى ... إلخ.
وهذا لا يعود لكونه لا يملك أي موروث ثقافي هوياتي تاريخي واحد، وإنما لتعميق مشروعه، ولإضفاء شرعية للهوية الجديدة، التي يتقمصها ويغتصبها، وليقدم نفسه للعالم باعتباره صاحب هذه الأرض. رغم أن منظمة اليونيسكو والإيسيسكو وغيرهما من المنظمات الأممية ذات الصلة تؤكد يوما تلو الآخر على الهوية الثقافية والحضارية للأماكن الدينية والدنيوية التاريخية، وللمأكل والملبس في فلسطين. لكن قادة إسرائيل الاستعمارية لا ينفكون عن متابعة مشروعهم الكولونيالي.
لكل ما تقدم يخشى العدو الصهيوني الثقافة الوطنية الفلسطينية، ويتبنى مقولة غوبلز النازي، ولهذا قام باغتيال المفكر والمثقف المبدع غسان كنفاني وماجد أبو شرار وغيرهم من رواد الثقافة والمعرفة؛ لأنه لا يقبل القسمة على الثقافة الوطنية، ويسعى لاغتصابها، وانتزاعها من روح وقلب الشعب الفلسطيني ورواد ثقافته وصناع شخصيته وهويته. لكنه فشل، وسيفشل إلى يوم هزيمته وكنسه عن أرض فلسطين. لذا كانت وستبقى جبهة الثقافة الجبهة الأهم والأقدر في الدفاع عن التاريخ والموروث الحضاري الوطني. ولن يتمكن العدو الصهيوني من التعايش مع روح الثقافة الوطنية، لأنها لا تشبهه بشيء، ولن تتعايش معه، ولأن الشعب وحراس ثقافته الوطنية سيكونون له بالمرصاد ولكل من يروج بضاعته الفاسدة، وأرض فلسطين ستبقى للفلسطينيين ومن يرغب العيش معهم بسلام، والقبول بهويتهم وموروثهم التاريخي سيرحب بهم ويدمجهم في بوتقته الاجتماعية. 

 

المصدر الحياة الجديدة