محاضرة سياسية ثقافية تأريخية نوعية بامتياز - أكثر من 150 دقيقة – دون انقطاع ألقاها سيادة الرئيس محمود عباس بدرجة عالية من الوضوح والتركيز والتسلسل التاريخي لإرهاصات وحيثيات نشوء المسألة اليهودية وما قبلها بحوالي مئتي عام، وصولا لإنشاء المنظمة الصهيونية ومؤتمرها الأول في العام 1897، والقرارات والمؤتمرات والثورات الفلسطينية، وما تلاها من تطورات في سجل الكفاح الوطني الفلسطيني ومقاومة المشروع الاستعماري لفلسطين، حيث قدم سيادته للحضور- نخبا سياسية وثقافية وأكاديمية وشخصيات وطنية -  تواريخ وأحداثا ببعض التفاصيل المركزة ربما سمعها أكثرنا - وأنا منهم - لأول مرة. 
ومما لمسناه إثر اللقاء يمكننا تقسيم الحضور إلى: متفاجئين بحجم وسعة الكنز المعرفي التاريخي والثقافي لدى شخص الرئيس، وغير متفاجئين اعتبروا المعلومات التي قدمها الرئيس للحضور – رغم تنوع اتجاهاتهم  الفكرية والسياسية – بأنها إضافة نوعية من المستوى العالي والرفيع جدا.  
لم أتفاجأ– أنا شخصيا – وإنما بلغت ثقتي بالرئيس وقناعتي بنمط تفكيره وتوجهاته في نهجه السياسي، وبقدراته وإخلاصه ومصداقيته وإنسانيته لأعلى مراتب الإيمان، فالرسالة (الكتاب) التي (قرأها) الرئيس - بالمعنى الموضوعي وليس بالمعنى المادي الملموس -  على الحضور كافية لأن تكون منهجا لتعليم القادة كيفية قراءة أحداث التاريخ في العالم، تحديدا المتعلقة بشكل أو بآخر بأحداث تاريخية في بلادنا فرضت علينا، أو صنعها شعبنا، ومنهجا لاستخلاص الحكمة والعبر وسبل الاستفادة منها في قراءة الحاضر والمستقبل، فالقائد الحقيقي عارفا، عالما، وباحثا، يقدم ما يعتقد أنها حقائق مجردة، ليتم اختصار الطرق والتضحيات من أجل تحقيق الأمنيات، فالزمن عند القائد الحقيقي مقياسه الإنجاز المنتزع من قلب الإعجاز، يعتمد رؤية طويلة المدى، واسعة بلا حدود، وصبرا وصدقا في العمل، يمنح الشعب أملا مجسدا حتى لو كان ضئيلاً  وليس (عرافا) يدعي استطلاع الغيب، ويدفع الآخرين نحو المتاهات، فيسقطون في دروبها  قبل الوصول إلى مقصدهم (معرفة الحقيقة) أو قد يصلون لكن بعد فوات الأوان، لعجزهم عن توظيف منحة التفكير، والتعلم من التجارب، وإصرارهم على اعتماد رؤية قصيرة المدى طفولية، تمنح الذات وهما متضخما. 
لم نتفاجأ لأننا قرأنا كتب الرئيس أبو مازن المنشورة، ونقرأ في كل كلمة من خطاباته وأحاديثه، فنستشرف الأسمى والأعظم في كتبه غير المنشورة، مع قراءتنا لكل إيماءة في حركته، وشتان بين من يسمعون بآذانهم ويقرأون المكتوب بعيونهم، وبين من يسمعون بجوارحهم وأحاسيسهم وقلوبهم ويقرأون ببصيرتهم. 
لم نتفاجأ لأننا نعلم سبب تركيز الرئيس أبو مازن وهو قائد حركة التحرر الوطنية الفلسطينية على النضال الدبلوماسي القانوني في المحافل الدولية ولدى المجتمع الدولي، واهتمامه بانتزاع قرارات من مجلس الأمن الدولي حيث تهيمن دول استعمارية أنشأت إسرائيل كوكيل، بعد استقرار الأمور لصالحها بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية،  فللولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا العظمى، الدور الأكبر في توليد المنظمة الصهيونية في مختبراتهما، وإنشاء كيان أسموه "إسرائيل" لاستخدامه في تنفيذ مشاريع استعمارية في المنطقة تبدأ في السيطرة على مركزها الاستراتيجي وقلبها الروحي (فلسطين) ...لذا فإن كفاحنا ونضالنا الوطني لانتزاع الحق الفلسطيني من القوى الاستعمارية الكبرى، أما أداتهم (إسرائيل) فإنها لا تملك أكثر من إظهار الممانعة التي ستضعف, طوقناها بدوائر عمل وطني وحدوي منظم، ومقاومة شعبية مدروسة وممنهجة، وبضغوط من المنظمات والهيئات القانونية الدولية، ومن القوى الشعبية المتنامية المتفهمة والمساندة للحق الفلسطيني لدى الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة (بريطانيا).

 لم نتفاجأ، لأن رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة تحرره الوطنية، يعلم مكمن  مفاتيح الحل، ويعلم أن قرار (إسرائيل) ليس في يد رؤساء حكوماتها وقادة عسكرها، وإنما في يد من أنشأها، وأن القيادة تتطلب العلم، وقراءة الوقائع والأحداث الدموية وسياسات العنصرية العدوانية الإجرامية باعتبارها انعكاسا لوقائع تاريخية، واستنباتا لجذور سامة تحت سطح الأرض غير مرئية، وأن على القائد النظر بعين الحكمة والتأمل والتفكير والقراءة الدقيقة الصحيحة والتثبت من الحقائق قبل اتخاذ أي قرار، قد يتسبب بهدر دم الشعب  الفلسطيني  بلا حساب أو تقدير للروح الإنسانية، ولأن الرئيس أبو مازن لا يريد أن يتوج قائدا عظيما على تلال من عظام آلاف الضحايا، فقد اختار سبيل معرفة أصل الجائحة، الآفة، الداء، الوباء، المسماة (إسرائيل) وكيف زرعت في جسد وطننا العربي وفي القلب منه فلسطين، وذلك لتحديد العلاج المناسب الذي لا يبقينا على قيد الحياة وحسب، بل ويمكننا من تطهير عقولنا كمقدمة لتحرير أنفسنا  ثم وضع استراتيجية التحرر ونحن في كامل قوانا العقلية، ووضوح رؤيتنا السياسية وفي أقوى مركز ثقافي نباهي به الأمم، فتلتئم عناصر وحدتنا الوطنية طبيعيا، فتبرز للعالم صورة روايتنا الوطنية باعتبارها الحق الغالب حتما للخرافة الصهيونية. 

في المقالات القادمة سنطلعكم على أهم الأحداث المؤرخة التي قدمها الرئيس في ندوته التاريخية، ففيها ما يكفي لجعل اليهودي المغفل الذي اقتلع من أرض وطنه الأصلي وهجر إلى فلسطين متفاجئا من حجم الكذب والتضليل الذي مورس عليه خلال مئات السنين حتى بات الضحية الثانية للصهيونية بعدنا. 

المصدر: الحياة الجديدة