كمواطن من أهالي قطاع غزة , شعرت بالحزن الشديد إلى حد الصدمة , عندما مرت الذكرى التي كنت أتمناها رافعة وطنية كبرى يستظل بظلها الجميع , و أقصد بها الذكرى السابعة لاستشهاد الرئيس عرفات, و قد تحولت من رافعة وطنية كبرى, إلى حقل من الارتجاف و المخاوف و المقايضة المذلة التي لا تليق بشعب قدم كل هذه الدماء !!! و السبب أن الانقسام كان حاضرا بوجهه الشيطاني و بأنفاسه السامة, و بتداعياته التي تنتشر في الجسد الفلسطيني كالسرطان, و روحه الخبيثة الملوثة التي تحبذ للجميع الاستسلام الكامل لهذا الانقسام .

لماذا لم تجري في قطاع غزة ، التي هي مسقط رأس ياسر عرفات ، وأول بشراه بالرصاص ، وأول بشراه بالحجارة ، وأول بشراه بالدولة ، لماذا لم تجري فعاليات كبرى تليق بكل هذه المعاني ، مع أن جميع القوى السياسية على اختلاف منابعها وعناوينها استظلت بالرجل ، سواء على مستوى مكانته كزعيم ، أو على مستوى فكرته الجوهرية ، وهي فكرة إحياء فلسطين وحضورها من جديد بشكل بهي فوق خارطة الواقع !!! حيث الجميع بدون استثناء من أكبر معارضيه إلى أكبر مؤيديه استظلوا بظله ، واكتسبوا شرعيتهم من الشرعية الفلسطينية التي أوجدها هو من قلب المستحيل .

إذا :

الانقسام قوي، وعميق ، والقوى الإقليمية والدولية التي أرادت هذا الانقسام منذ عقود نجحت في جعله يتغلغل في مسام التفاصيل اليومية ، ور وجت لكل معايير الاستسلام لهذا الانقسام ، التي أخذت أشكالا ومعايير ، ورهانات ملونة ، بينما هي أمام الإرادة السياسية الشجاعة والصادقة لا تصمد سوى لحظات لكي نكتشف أنها مجرد هراء ، وخداع للنفس ، وإدمان للسراب !!! 

من السهل أن نستمع إلى تفسيرات وتأويلات كثيرة لكيفية حضور الانقسام بوجهه البشع بحيث لم نستفد من تحويل الذكرى إلى رافعة وطنية شاملة ، فانكفأنا إلى سراديب الخوف ، والشك ، والمنطق الشاذ ، والعجز الكامل .

كنا قبل الذكرى بأيام فقط ، قد تجمعنا في رسم صورة وطنية مضيئة في استقبال أبطالنا المحررين من السجون الإسرائيلية !!! ومع أن صفقة التبادل مليئة بالثقوب والمثالب والأسئلة لمن يريد أيبحث عن السلبيات ، ولكن الإرادة السياسية اتحدت مع الوعي الجمعي الفلسطيني ، فلم تلتفت إلى وسوسات الشيطان ، واحتفلنا بعودة أبنائنا المحررين إلى أحضاننا بما يليق بهم كأحب الأبناء ، وبما يليق بنا كشعب مكافح له قضية ربما تكون أعدل قضايا التاريخ الإنساني !!!

فلماذا لم ننجح في تصعيد هذه الصورة المدهشة عندما جاءت الذكرى ، الذكرى السابعة لاستشهاد ياسر عرفات ؟؟؟

مطلوب قدر كبير من الصدق في الإجابة عن هذا السؤال !!! هل هناك طرف سياسي فلسطيني يمكن أن يخطر على باله أنه سيستفيد من خنق الذكرى على هذا النحو ؟؟؟

أنا شخصيا لا أكاد أصدق ؟؟؟

هل هناك طرف سياسي فلسطيني يمكن أن يقبل لنفسه إدخال هذه الذكرى في ألعاب المقايضات والمناكفات والافتعالات التي هي قاموس الانقسام ؟؟؟

أليس هذا نوعا من الاستسلام للانقسام بكل مداراته ، وتداعياته ، ومآلاته التي د تبجح الإسرائيليون بأنهم خططوا لها منذ زمن بعيد وبدرجة عالية من الإتقان ؟؟؟

كمواطن فلسطيني ، فإنني أدعو القوى السياسية منفردة ومجتمعة أن تتعمق في بحث المشهد ، لماذا يحدث ذلك ، أين نقاط الاختراق الأساسية ، أين بثور العجز الوطني ، أين مواقع غياب الإرادة السياسية ، وكيف نخرج من قاع البئر الذي وقعنا فيه ، بئر الانقسام ، بينما نحن نصرخ بادعاءات أننا فوق رأس الجبل ؟؟؟

بعد دراسة كل التجارب ، اكتشف الأعداء أن الانقسام الذي يصوغونه بأيديهم ليس سوى قشرة تافهة ، ومجرد بثور على السطح ، فقرروا أن يضعوا الانقسام بأيدينا ، لأنه حينئذ سيكون السرطان القاتل !!!

منذ العام 1948 وحتى العام 1994 ، أي خلال ستة وأربعين عاما ، اكتشف العالم بذهول أن الانفصال القسري بين فلسطينيي غزة والضفة ، وبين فلسطينيي غزة والضفة وداخل الخط الأخضر ، ليس سوى لمسة عابرة ، وعندما أتيح لنا التواصل والالتقاء ، اكتشفنا أننا لم نغب عن بعضنا قرابة نصف قرن ، بل شعرنا أننا عائلة واحدة كنا نستمع إلى أحدنا يروي حكاية ثم انقطع لبضع لحظات وعدنا نكمل بقية الحكاية !!! فحين يكون الانقسام صناعة العدو ، وبيد العدو فإن الفطرة الوطنية تعبر عن نفسها بأشكال تصل إلى حد المعجزة !!! ولذلك صاغ أعدائنا هذا الانقسام بشكل فيه أكبر قدر من التمويه والغش والخداع ، لكي يبدو وكأنه انقسام نصنعه نحن بأيدينا ، وهذه هي الكارثة .

أدعو القوى السياسية ، والنخب الثقافية والاجتماعية ، أن يبذلوا جهدا أكبر لفهم هذا الانقسام الملعون ، وأن لا تتماهى معه بأي درجة ، وأن يسقط عن جسده المتوحش كل المبررات الزائفة ، وأن ننظر على أساس أن التعايش مع هذا الانقسام ، والتكيف معه ، والاستسلام له ، أفدح جريمة من جرائم تدمير الذات الوطنية الفلسطينية .

كيف تصالحت شعوب في هذه الدنيا مع نفسها أو مع غيرها ، بعد حروب استمرت عشرات السنين ، احترق فيها الأخضر واليابس ، وسفكت فيها دماء الملايين ، وقيل فيها من الدعاية العنصرية ، وثقافة الكراهية ما قيل بينما نحن نفشل حتى الآن في إنجاز المصالحة وليس بيننا سوى أضغاث أحلام وبقايا رهانات بائسة ؟؟؟ 

إدارة الانقسام التي استمرت خمس سنوات هي إدارة عاجزة لا تجدي نفعا ، ومقولات الانقسام التي نختبئ وراءها هي مقولات ساقطة لا يصدقها حتى المتاجرين بها ، لا بد من صدمة ، صدمة في الإرادة السياسية ، صدمة في الوعي الجمعي ، صدمة في هذا السلوك المتواتر المستسلم للانقسام دون قيد أو شرط.