إيهاب الريماوي
"لما أصحو من السهو القصير الذي يهزمني بعد ليلة طويلة من متابعة العدوان على غزة، فأول ما أبحث عنه هو توقيت ما نشره الأصدقاء، فإذا كان التوقيت قريبا أشعر ببعض الاطمئنان، أنهم ما زالوا على قيد الحياة، فالذي نبحث عنه اليوم هو بقاء أصدقائنا أحياء فقط".
الكاتب خالد جمعة الذي غادر قطاع غزة منذ عدة سنوات، يعيش للمرة الثانية العدوان الإسرائيلي على غزة بعيدا عنها، مضطرا لأن يبقى أكثر من 22 ساعة متسمرا أمام شاشة التلفاز، باحثا عن كل معلومة أو خبر يطمئن فؤاده عن عائلته وأصدقائه في القطاع.
ولد جمعة في مخيم الشابورة بمدينة رفح في 25 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1965، وهدم الاحتلال منزل عائلته عام 1971 ضمن عدد كبير من المنازل التي جرفت بأمر من وزير الحرب الاسرائيلي آنذاك أريئيل شاورن، لأنه كان يعتبرها معيقة لقواته، فهدمتها من أجل شق شارع مكانها، ولاحقا بات يعرف الشارع بشارع "الهَدد".
يرى جمعة بأن الموت لا يكفي للنجاة في قطاع غزة، لأن صواريخ الاحتلال قد تلاحقك حتى وأنت في قبرك، ويستذكر حكاية لصديقه الذي ولد ابنه متوفى عام 2008، ودفن إلى جانب ابن عمه الشهيد، لكن صاروخ إف 16 دمر القبرين وأخرج رفاتهما وفتتهما في عدوان عام 2014.
يمحو الاحتلال بعدوانه ذاكرة المكان، فيتخذ من ذلك منهجا في حربه على القطاع، ويتعمد شطب جزء من ذكرياتك.
"قد لا أتمكن من أن أذهب بأحد أصدقائي إلى مكان ما في غزة وأشرح له ذكرياتي فيه، فالمكان ذهب ولم يعد له وجود، وليس مثل أي دولة بالعالم يمكنك أن تخبر أحدهم بذكريات ما في مكان بعد عشرات السنوات"، يقول جمعة.
وعن محو ذاكرة المكان يروي جمعة حكاية الفتاة الكفيفة من حي الشجاعية التي كانت تعتمد على ذاكرتها للمكان من خلال التحسس بأصابعها على الجدران وتستدل على الطرق من خلال ذلك، لكنها منذ عام 2014 لم تخرج من منزلها لأن طائرات الاحتلال هدمت الجدران، فأصابعها فقدن ذاكرتهن ولم تعد تعرف الطرق.
تأثر خالد في العدوان الحالي بقصف استوديو "مشارق" الذي يحمل ذكريات كثيرة لديه، حيث سجل فيه عشرات الأغاني والمسرحيات للأطفال، وبرج الشروق الذي يحمل أيضا ذكريات كثيرة، فالمأساة من وجهة نظره ليست فقط بفقدان الأعزاء، إنما بالأماكن التي عشت ونشبت فيها.
"صدفة أن تكون حيا في غزة، ففي اليوم الأول من الحرب على قطاع غزة عام 2008 كنت ذاهبا بمركبتي إلى "كافيه" مزاج وكان أمام مدينة عرفات للشرطة، عنصر أمن يدقق برخص المركبات ولحسن حظي لم يوقفني، وبعد دقيقة ونصف فقط شنت طائرات الاحتلال غارات كثيفة على مدينة عرفات استشهد يومها 144 شرطيا، بينهم الشرطي الذي كان يدقق برخص المركبات، فلو أوقفني لما كنت على قيد الحياة الآن". يضيف جمعة.
رغم الحروب التي تشن على غزة فإن الفن الذي ينتجه شبان القطاع، يشكل علامة فارقة بالمنطقة، فنجد عندهم الإبداع بالفن التشكيلي والموسيقى ومختلف الفنون الأخرى، فيقول جمعة "أعطِ أهالي غزة مساحة صغيرة للعمل ستجد إبداعا بلا حدود، ليس لأنهم عباقرة بل لأنهم يملكون الإرادة والجدية في العمل".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها