لم يكن بالإمكان تجاهل شعبوية ترامب عندما أعلن عن نقله للسفارة الأميركية إلى القدس قائلاً "الآن القدس أصبحت خارج طاولة المفاوضات". وقد واصل ترامب تبجحه أمام جمهوره ساخراً من ملك عربي لم يذكر اسمه حاول الاتصال به ليثنيه عن نقل السفارة الأميركية، لكن ترامب لم يتلق اتصاله إلا بعد أن نقل السفارة، وحينها ابتسم قائلاً له "الآن نقلت السفارة ولم يحدث أي شيء.. لاتقلق!". وفي السياق، راهن ترامب على  أن الشعب الفلسطيني لا يأبه بالقدس، ولا بثوابته الوطنية، ولهذا قدم صفقته للتسوية وكأنها صفقة تجارية يتنازل فيها الفلسطينيون عن عاصمتهم وعن حق العودة مقابل دولة شكلية كقطعة الجبن الفرنسية، على حد تعبير الرئيس أبو مازن. وقد شجعت الهبة الجماهيرية الضعيفة عندما تم نقل السفارة ترامب بالاستمرار في شعبويته وعنجهيته السياسية تجاه القضية الفلسطينية.

وإذا ما انتقلنا إلى حليف ترامب الرئيس، نتنياهو، نجده قد وجد ضالته في هذا الدعم التاريخي والاستراتيجي غير المسبوق من الإدارة الأميركية السابقة، واعتقد نتنياهو أن التاريخ سيمجده باعتباره الصهيوني الذي وحد القدس ونزع الاعتراف بذلك من قبل الدول الكبرى، وأقصد هنا الولايات المتحدة. ولم يتوقف نتنياهو عند هذا الحد، بل استمر قدماً في مشروعه تجاه القدس الموحدة كعاصمة للدولة العبرية، وحاول من خلال تحالفاته مع اليمين الصهيوني المتدين أن يعقد صفقات سرية تبقيه في الحكم من جانب، وتعمد إلى تقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا بهدف إنشاء هيكل اليهود المزعوم هنالك من جانب آخر. واعتبر نتنياهو تماماً مثل حليفه الذي هزم في الانتخابات الأميركية العام الماضي أن الفلسطينيين المحبطين سياسياً والمعتمدين اقتصاديا على دولة الاحتلال لن يكون بمقدورهم أن يقوموا بأي فعل ضد هذا المخطط. كما راهن نتنياهو الذي نجح في عقد اتفاقيات التطبيع مع بعض الدول العربية أن العرب أيضاً سيكونون متفرجين فقط.

ولكن الفلسطينيين أثبتوا عكس ما ذهب إليه ترامب ونتنياهو، فقد انتقلت انتفاضتهم من الشيخ جراح إلى المسجد الأقصى، واشتركت غالبية أحياء القدس في أعمال المقاومة والعصيان. ولم تتمكن الآلة العسكرية الهمجية الإسرائيلية من قمع هذه الانتفاضة، بل على العكس، فقد امتدت هبة الفلسطينيين لأول مرة إلى فلسطينيي عام 1948 في الداخل المحتل. وباتت اللد والنقب وأم الفحم وغيرها تنتفض في وجه اليمينية الصهيونية تماماً مثل القدس وبيت لحم وبقية مدن الضفة الغربية. ومن ثم سرعان ما اتسعت المواجهات الشعبية لنجدة القدس إلى قطاع غزة ودول الطوق في لبنان وسوريا والأردن.

لقد قال الشعب الفلسطيني كلمته إن القدس خط أحمر، وأنها عاصمة الدولة الفلسطينية، وأنهم سيقدمون الغالي والرخيص من أجل مقدساتهم، وسيبقى المسجد الأقصى حجةً للمسلمين. وسيدرك ترامب بشعوبيته المفرطة بأنه قد أخطأ عندما راهن هو ونتنياهو على أن تمرير الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية سيكون سهلاً ودون تكلفة تذكر. اليوم قالها الشعب الفلسطيني عالياً؛ لا للاحتلال، ولا لتهويد القدس، ولا لبناء الهيكل المزعوم في مسجدهم المقدس، ونعم لدولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وربما سيكتب ترامب في مذكراته لاحقاً بأن منهج فن الصفقات الذي تبناه في عمله التجاري والسياسي يحتاج إلى تعديل جوهري وهو احترام الثوابت والقيم، فالفلسطينيين استطاعوا أن يقولوا لا في وجهه وفي وجه حليفه نتنياهو، احتراما لهذه الثوابت والقيم الوطنية.