أن يقف عمار حجازي ابن الفدائي المعروف بالأسير الأول محمود بكر حجازي على منبر الأمم المتحدة ليلقي كلمة فلسطين بصفته عضوًا في بعثة فلسطين في الأمم المتحدة ومستشارا في وزارة الخارجية الفلسطينية فإن للرواية الفلسطينية ميزة قل وندر مثيلها.
يعود الفضل للفنان التشكيلي عبد الرحمن المزين الذي وفر لي فرصة التعرف شخصيًا على الفدائي الأسير الأول محمود بكر حجازي (أبو بكر) فقد كنا في مهمة ثقافية في صنعاء العاصمة اليمنية، فسألني إن كنت أود الذهاب معه، وعندما استفسرت إلى أين، لم أكن أتوقع أن يصطحبني معه إلى بيت فيه كنز فلسطيني، كنز لا علاقة له بمعدن الذهب أو غيره وإنما بمعدن الفلسطيني الإنسان، المناضل، الفدائي المعطاء، الحيوي، الصادق، الوفي، المخلص، الأخ، الأب، الأخت، الأم، العائلة، نضوج الفكرة، جمال الالتزام والانتماء، الروح المعاصرة التحررية التقدمية، كنز فيه حب للوطن فلسطين يفوق أي حب.
لم أصدق حينها أني أصافح فدائي كان بالنسبة لنا مع مطلع انتمائنا لحركة فتح في العام 1968 بمثابة (أسطورة) فقد قرأنا وسمعنا عن بطولته قبل تحرره من الأسر، أما لحظة اللقاء حتى وإن كانت في العام 1988 أي بعد أكثر من سبعة عشر عامًا على تحريره من معتقلات الاحتلال فقد كانت بالنسبة لي علامة فارقة في حياتي، أعتقد أن فرصة أخرى لن تحدث لي ولعائلتي مرة أخرى بنفس قيمتها وتحديدًا من الناحية الإنسانية الاجتماعية والوطنية، فبيت أبو بكر حجازي أكبر وأعظم من كونه بيت عائلة، فقد كان مدرسة وطنية، منهجها عشق فلسطين بأجمل صور قد يتخيلها فنان تعبيري أو تشكيلي أو كاتب رواية أو قصة، فهنا كل هذا حي ينبض بحيوية ما رأيتها في بيت لا من قبل ولا من بعد ما عرفت المقدسي أبو بكر وزوجه الفاضلة وأبناءه الرائعين الذين افتخر بهم اليوم كما يفتخر بهم المجتمع الفلسطيني، أبو بكر حجازي الذي حكمت عليه سلطات الاحتلال بالإعدام، بعد أسره ونجا من الموت بعد إصابات خطيرة بالرصاص في جسده ونفاذ ذخيرته حين أسِر، وكان قد حول ما يسمى قضاة الاحتلال الإسرائيلي إلى متهمين، وصار لدى المناضلين وأحرار العالم نموذجا للفدائي الثائر المقاتل من أجل الحرية، كيف لا والمحامي الفرنسي الذي أوكلت له مهمة الدفاع عن الثائرة الجزائرية الفدائية جميلة بوحيرد كان هو ذاته محامي الدفاع عن أول فدائي من صفوف حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح.
أبو بكر حجازي الذي كان شغوفًا في الحديث عن القدس وحاراتها العتيقة وجدرانها التاريخية، أكثر من الحديث عن نفسه وبطولاته، فقد كان بإمكان من يصغي إليه بحب رؤية كتلة جسده النحيلة، المرسومة بعضلات وعروق بارزة توحي لناظرها بحيوية وقدرة وإرادة نفس في جسد غير عادي كأنه انتزع من صخور أرض المدينة المقدسة، تنبض بالحب للحياة، وبكبرياء المواجهة مع الموت الذي جعله محمود حجازي ندًا مذ كان فتيًا لا يتجاوز الثانية عشر، يواجهه يصارعه (كرمال عيون الوطن).
كان بيت عائلة محمود حجازي في صنعاء ثم في غزة بعد عودتنا للوطن بمثابة بيت لي ولزوجي التونسية، فنحن- الاثنين- ليس لنا ذوو قربى بالدم في فلسطين أبدًا، لكننا في بيت أبو بكر انتصرنا دون تخطيط أو قصد لقرابة الفكرة وروح الإنسانية وأخلاقياتها ومبادئها وأولهما المحبة والوفاء.
ما تحدث الرئيس أبو مازن في مؤتمرات حركة فتح واجتماعات أطرها التنظيمية إلا وحرص على ذكر محمود بكر حجازي كنموذج على إرادة الحركة واستمرارها في مسيرة الكفاح، ولعلي أنشر هنا انشراح صدر أبو بكر حجازي المطوق بجراح من رصاص المحتلين بالوسام الذي منحه اياه الرئيس محمود عباس.
ترك محمود بكر حجازي إرثا متميزًا في مسارات حياته الوطنية بعد إطلاق حريته، فكان نموذجا يحتذى في العطاء والحيوية والعمل من أجل الوطن فلسطين وقبلها في أقطار عربية حيث ترك بصمات عملية خالدة في كل مكان حل به، وقد شهدت له ساحات وميادين الوطن وأقطار عربية ودولية آثارًا طيبة عكست عمق انتمائه لفلسطين والتزامه بمبادئ الثورة الفلسطينية.
كنت استشعر سعادة اشبال وزهرات بعمر الورود اثناء تدربهم على يديه في معسكرات الحركة في عدن كيف لا وهو المعروف بالأسير الأول ومقاتل بطل في معركة بيروت المجيدة عام 1982.
روى أبو بكر حجازي تفاصيل وقوعه في الأسر ومحاكمته حتى تحريره، ولعلي أفخر أني وثقت هذا النموذج الوطني في إحدى حلقات برنامج حكاية صورة الذي كنت أعده وأقدمه لفضائية عودة، لكن الأهم هنا شعوري بأني أمام روائي متمكن، ذي حس ولغة شاعرية، فأدركت أن الإيمان بقضية الوطن يرقى بالإنسان إلى مصاف أعلى مما يريد تلقائيًا.
يطول الحديث عن أبي بكر حجازي لكن لابد من إفشاء سر عنه بأنه كان لصا، نعم كان لصا شريفا يستولي على أسلحة الجنود الانجليز أيام الاستعمار البريطاني لإيصالها للثوار، ويفكك متفجراتهم ويعيد تصنيعها لصالح ثوار فلسطين، واستولى على رشاش انجليزي عندما كان في الجيش الأردني ليطلق الرصاص منه على تجمع لقوات إسرائيلية في العام 1956 فالحمية العروبية دفعته لهذا الفعل فدفع ثمنه عقوبة لم يندم عليها أبدًا.
فارقنا أبو بكر حجازي وارتقت روحه للسماء، لكنه أبقى لنا في كتاب فلسطين فصلًا تاريخيًا، وترك من صلبه أبناء يتمنى كل فلسطيني أن يكونوا أبناءه بأخلاقهم وانتمائهم والتزامهم وعلمهم.. أبو بكر حجازي إلى اللقاء لعل روحنا تعانق روحك في فضاء القدس التي عشقتك وعشقتها.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها