تجارب الحركات والفصائل والأحزاب السياسية تحمل في طياتها الغث والسمين، الإيجابي والسلبي، النواقص والإبداعات. ولا يمكن لأي من تجاربها الصعود والتقدم دون خيبات ونكسات وهنات وتراجع وآلام. لأن كلا منها يمثل ظاهرة بحد ذاتها، لها وعليها، تصيب وتخطئ، تتقدم وتراوح وتنكفئ. والمؤكد أن تلعب القيادات التاريخية المؤسسة دورًا مركزيًا في تحديد ميزات وسمات هذا المكون أو ذاك. وبالتالي بمقدار ما تتمكن قيادة قوة سياسية في بلد ما من التقاط الحلقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والكفاحية، وتبدع في إدارة معاركها مع الخصوم والأعداء، بقدر ما تتمكن من تبوّء المكانة التي تليق بها.
حركة فتح نجحت قيادتها في إمتلاك ناصية الإبداع والمبادرة مع تجاوزها سقف النظام السياسي العربي، والقوى والحركات والأحزاب الفلسطينية اواسط الستينيات عندما أطلقت الرصاصة الأولى، وأعلنت عن انطلاقة شرارة الثورة المعاصرة. كما تميزت الحركة برفض تحديد هوية ايديولوجية (فكرية) لإطارها التنظيمي، ورفعت راية الايدولوجية الوطنية، وركزت جهودها على الحلقة المركزية الأهم في الكفاح التحرري الوطني، وهي إعادة الاعتبار لمكانة وهوية الشعب العربي الفلسطيني وقضيته المركزية سياسيًا، التي سعى طغاة العصر ومشروعهم الصهيوني نفيها، وتركها عارية كقضية إنسانية بعد أن تآمر معهم اشقاء من النظام الرسمي العربي، ثم رفعها لواء وشعلة الكفاح المسلح كوسيلة، والأداة الرئيسية للنضال الوطني، بالارتباط مع الوسائل الكفاحية الأخرى لتحقيق الأهداف السياسية للشعب، وتجلت قدرتها وابداعاتها في السيطرة على منظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد، المؤسسة، التي اوجدها النظام الرسمي العربي عام 1964، فهي من جهة تمردت على سقف واجندة النظام السياسي، ومن جهة أخرى لم تدر الظهر له، وتعاملت مع مكوناته برؤية براغماتية عالية جدا، تفوقت فيها على كل فصائل المنظمة بتموجاتها وخلفياتها الفكرية والسياسية والكفاحية.
كانت النتيجة المنطقية والعبقرية، انها وقفت على رأس حركة التحرر الوطني الفلسطينية رغما عن الفصائل وبرضاها، لأنها فرضت ذاتها ومنطقها قبل ان تمتلك المال والقرار السياسي، بقدرتها التكتيكية الإبداعية في التعامل مع مؤسسات النظام الرسمي العربي بمختلف تلاوينه المحافظة والتقدمية وما بينهما، ومع كل المنظومة الإقليمية والدولية.
هذه الفتح كانت وما زالت تنظيمًا واحدًا، بقيادة ورأس واحدة، وبأهداف واحدة كقوة وكوحدة تنظيمية مستقلة. ولم تقل يوما قيادة حركة فتح، انها بديل عن فصائل وأحزاب الحركة الوطنية، ولم تلغِ أيا منها، وتعاملت مع مكونات الساحة على ارضية الوحدة والاختلاف، التضاد والصراع والتكامل، ورفضت بالمقابل تجاوزها، أو القفز عنها، وعن مكانتها كعمود فقري في الساحة، ودافعت كحركة واحدة عن الذات الفتحاوية، ولم تقل يومًا أن فتح بديل عن منظمة التحرير، وأنها الجبهة الوطنية العريضة النقيضة للإطار الجامع والممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وتمثلت في الهيئات والمؤسسات الوطنية بقرار من اللجنة المركزية، وشاركت في المجالس الوطنية بقوام واحد، وليس بحسابات ضيقة، وأعطت المستقلين دورًا رئيسيًا، ولكن وفق منظومتها هي، وتكتيكاتها هي، التي تخدم إمساكها برأس منظمة التحرير، ودافعت عن مكانتها وريادتها بصلابة لا تلين.
من المؤكد أن مرحلة الثورة الفلسطينية قبل إقامة السلطة الوطنية لها سماتها وخصالها الخاصة. وبعد إقامة الكيانية الفلسطينية عام 1994 اختلفت خصائص العملية الوطنية، وإن استمرت عملية التلازم بين أشكال النضال الشعبي والسياسي والدبلوماسي والتنموي البنائي، ومع تشكيل مؤسساتها التشريعية بدأت عملية ديمقراطية جديدة تجاوزت ديمقراطية غابة البنادق السابقة، وبات كل من يرغب المشاركة فيها يقوم بترشيح قوائمه إن كانت قوائم خاصة او مشتركة، أو إن كانت مناطقية أو مختلطة أو قائمة نسبية واحدة. وكل حركة او فصيل يختار قائمته وفق معاييره التنظيمية الخاصة، ولم يترك أي فصيل او حزب الباب على الغارب ليترشح كل من هب ودب من محازبيه، ووفق حسابات خاصة، وتحت يافطة "الديمقراطية"، هذه ليست ديمقراطية، هذه هي الفوضى والتطاول على وحدة ومركزية القرار التنظيمي، ومن له وجهة نظر فليطرحها في الأطر الداخلية لا خارجها، وتصفية الحسابات تتم في المنصات والمؤتمرات الحزبية او الحركية لا خارجها، وكل من يدعي عكس ذلك، لا يدرك الف باء الديمقراطية لا الداخلية الحزبية ولا الوطنية.
نعم فتح الرائدة حققت إنجازات هامة ومركزية في النضال الوطني، رغم ذلك اخفقت في معارك ومواقف متعددة، لكنها بقيت ممسكة بزمام الأمور في الساحة الوطنية. اصيبت بشيئ من الترهل في بعض مفاصلها، وتعاني من أزمة عميقة، نعم. ولكنها لم تصب بالخرف، ولم ينضب دورها، رغم التراجع النسبي في مسيرتها. تكالبت عليها قوى من داخلها وخارجها، بالتأكيد، غير انها ما زالت واقفة على قدميها تواجه التحديات. تجربة السلطة في الـ27 سنة الماضية اوجدت فسادً في بعض مساراتها، نعم. لكن الكف النظيفة والوطنية بقيت الأعلى والأقوى.
النتيجة المسؤولة والواقعية ولمصلحة حركة فتح والشعب والقضية، هي حماية الذات الفتحاوية متماسكة، بعيدًا عن التشظي، والالتزام بقرارات الهيئات المركزية بغض النظر أن قبلتم بها، أو لم تقبلوا. ومن يريد الإصلاح ليناضل من الداخل الفتحاوي، وعبر الأطر التنظيمية لا من خارجها، أما الثرثرات السطحية والساذجة عن الديمقراطية، لم تعد تجدي نفعا، وكل من يشد على يد اي عضو من فتح يريد ويسعى للتمرد على قائمتها المركزية ان كانت خاصة او عامة، يكون متورطًا بالإساءة للحركة وقيادتها وتاريخها، وشريكًا مع القوى الهادفة لتمزيق وحدة وأداة الحركة بغض النظر عن اسمه ولقبه وموقعه وخلفياته.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها