السياسة ليست جزءًا من عالم المثل، بل العكس تمامًا، وهي ليست آيديولوجيا، بالرغم من أن أغلب السياسات تقف خلفها آيديولوجيا، إنها تعبير عن مصالح آنية وبعيدة المدى. إنها الراهن المتحول، وقد انتهى زمان صراع الآيديولوجيا الذي كان بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، ونحن نعيش اليوم مرحلة مخاض ما بعد العولمة، بما فيها من تحولات اجتماعية واقتصادية وفكرية وبما يفرض تحولات في السياسة، وهذا يعني أن السياسة بالضرورة أن تكون بنت زمانها ومكانها، وبنت الواقع ذاته.
نحن نعيش في عالم قد يبدو لنا أنه في حالة فوضى، فيه الأطراف تكون متحالفة في أزمة هنا، وتكون متناقضة، وحتى متصارعة في أزمة هناك، ولكن خلف هذا المشهد المتداخل على كل المستويات تقف مصالح قد تكون متوافقة في مكان، ومختلفة في مكان آخر. إنه واقع دولي مختلف وصعب ويحتاج إلى قراءة يومية ذكية، ويحتاج إلى ملاءمة صعبة بين ما هو آني تكتيكي، وما هو بعيد المدى واستراتيجي يتعلق بالأهداف العامة.
لذلك قد يفاجأ المرء من ردة الفعل التي جاءت من بعض الفصائل الفلسطينية على قرار القيادة بالعودة إلى العلاقة مع الجانب الإسرائيلي، باستثناء حماس طبعًا التي تعرف جيدًا ما تريد، وما يخدم مصالحها من كل تطور، فهذه الفصائل إما أنها لا تتعامل مع السياسة بمنطق الزمان والمكان والواقع والظروف، أو أنها تواصل منطق المزايدة، وادعاء الطهارة في زمن لا يتعامل أبدًا مع هذا الادعاء.
ألم تلاحظ هذه الفصائل، أن همّ القيادة هو العمل بكل الوسائل لإبقاء القضية الفلسطينية حية وعلى بساط البحث، وأن شعار المرحلة هو الغاية تبرر الوسيلة، ولكن من دون التنازل عن الحقوق والاهداف التي حددها مشروعنا الوطني.
أما حماس فهي موضوع مختلف فهي تتحرك ضمن أجندة، ولم تبدل استراتيجيتها بأنها البديل، وبما أن محركها هو هذا الهدف، فإن أي خطوة تراها أنها تضعف دور منظمة التحرير الفلسطينية، وتضعف فتح ودورها، ترى فيها مصلحة لها، لذلك هي أعربت عن رفضها لقرار القيادة، ليس بسبب أنه عودة للتنسيق الأمني كما زعمت، وإنما لأن المنظمة عادت تتحرك في زمان ومكان السياسة، كما يتطلبه الواقع، والظروف التي نعيش، هذا بالضبط الذي أزعج حماس، خصوصًا أنها تخوض مفاوضات سرية بالواسطة مع إسرائيل، واعتقدت أنها تقترب من أن تكون البديل والممسك بقرار القضية الفلسطينية.
وفي نظرة للواقع، وهو واقع في غاية الصعوبة، فإن هدف الوحدة الوطنية، وبالرغم مما سبق الحديث به، هو الهدف الأهم في هذه المرحلة، وأن قرار القيادة بالعودة للعلاقة مع الجانب الإسرائيلي يجب أن يفهم في سياقه، فهذه الخطوة باتت ضرورية ونحن نعيش لحظة تتحكم فيها جائحة الكورونا، وحاجة الجميع، بمن فيهم نحن، للقاح، كما أن الخطوة تأتي في مرحلة متحولة لما بعد "الترامبية"، التي دفع الشعب الفلسطيني ثمنًا باهظًا خلالها. إن السياسة هي بنت الزمان والمكان، هي بنت الواقع وليس لها علاقة بعالم المثل.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها